|    English   |    [email protected]

سرقة آثار اليمن.. جريمة القرن الحوثية

الجمعة 25 أكتوبر 2024 |منذ 4 أيام
محمد العرب

محمد العرب

عندما نعود بذاكرتنا إلى اليمن، نغوص في حضاراتٍ قديمة تركت آثارها على مر العصور. مملكة سبأ، مملكة قتبان، ومعين، كل تلك الحضارات وضعت بصمتها على أرض اليمن، مانحةً هذه البلاد كنوزاً لا تقدر بثمن، ليست مجرد حجارة، بل شواهد على مجدٍ ماضٍ يتحدث عن قوة وثقافة وعظمة متفردة…
واليوم، مع انقلاب الحوثيين المدعوم من إيران، تحول هذا الإرث العظيم إلى سلعة تُهرب في الأسواق السوداء، وتُسلب اليمن آثارها كما تُسلب أرواح أبنائها.

أحد أبرز الرموز التي تعبّر عن حضارة اليمن القديمة هو عرش بلقيس، رمز مملكة سبأ العريقة. هذا العرش كان أكثر من مجرد بناء؛ كان يمثل رمزاً سياسياً ودينياً لليمن القديم، وقد جذب اهتمام العلماء والمستكشفين على مر الزمن. لكن اليوم، وبعد سنوات من الحرب والصراع، أصبح العرش وما يحيطه من آثار مهدداً بالضياع. فبعد استيلاء الحوثيين على مساحات واسعة من اليمن، أصبحت تلك الكنوز عرضة للنهب، وتم تهريب قطع أثرية مرتبطة بعرش بلقيس إلى خارج اليمن عبر شبكات تهريب دولية، ليتم بيعها في مزادات عالمية. كل قطعة مهربة تمثل ضياع جزء من هوية هذا البلد.

ولم يكن عرش بلقيس وحده الضحية، بل تعددت المواقع التي استهدفتها عصابات التهريب. مدينة براقش، إحدى أقدم المدن في اليمن، والتي تعود إلى الحضارة المعينية، تعرضت هي الأخرى للنهب. براقش التي كانت حاضرة قوية ومحصنة بأسوار عظيمة، أصبحت اليوم مستباحة من قبل عصابات التهريب، التي تقتلع حجارتها العتيقة وآثارها الثمينة وتبيعها في أسواق غير مشروعة. هذه المدينة التي كانت رمزاً للرخاء والقوة في اليمن القديم، تمزقت تحت وطأة الحرب والسرقات الحوثية. 

ومن براقش إلى معبد أوام، هذا المعبد الذي كان مخصصاً لعبادة الإله المقه، إله القمر في الحضارات اليمنية القديمة. معبد أوام هو أحد أكبر المعابد القديمة في اليمن، ويعكس مدى تطور العمارة والديانة في ذلك الوقت. لكن المعبد لم يسلم من النهب، حيث تم تهريب العديد من القطع الأثرية المهمة من داخله. تلك القطع التي كانت تشكل جزءاً من تاريخ اليمن الديني والثقافي اختفت في متاهات السوق السوداء، تاركة المعبد مجرد هيكل فارغ يشهد على زمن كان فيه اليمن مركزاً للحضارة.

معبد بران، هو موقع آخر تعرض للسرقة والتهريب. هذا الموقع الذي كان أحد المعابد الهامة في مملكة سبأ، يُعتبر من أقدم المواقع الأثرية في اليمن. كان يحتوي على تماثيل، منحوتات، وقطع فنية نادرة، إلا أن الكثير من هذه القطع اختفت واحدة تلو الأخرى بفعل عصابات الحوثي التي حولت المواقع الأثرية إلى مناجم للثروات. ما كان يوماً مصدر فخر لليمنيين، أصبح الآن جرحاً مفتوحاً في الذاكرة.

لم يكن نهب الآثار عملاً عشوائيًا، بل هو جزء من استراتيجية ممنهجة تهدف إلى تمويل آلة الحرب. فقد وثقت تقارير دولية تورط الحوثيين في شبكات تهريب الآثار، والتي تمتد من الشرق الأوسط إلى أوروبا وآسيا. الدعم اللوجستي والمعلوماتي الذي يتلقاه الحوثيون من إيران ليس سراً، بل هو جزء من تحالف يدعم الأنشطة غير المشروعة لتمويل الصراع المستمر في اليمن. فالآثار التي يتم تهريبها لا تباع فقط من أجل الربح، بل تمثل جزءاً من مخطط أوسع يستغل التراث الثقافي لتحقيق مكاسب سياسية واقتصادية.

تهريب الآثار لا يعني فقط فقدان الحجارة أو التماثيل، بل يعني سرقة هوية الأمة. فالآثار ليست مجرد قطع فنية، بل هي جزء من الذاكرة الجماعية للشعوب. إنها تربط بين الماضي والحاضر، وتذكر اليمنيين بتاريخهم العريق، بما كانوا عليه وما يمكن أن يكونوا عليه في المستقبل. لكن مع كل قطعة تُهرب إلى الخارج، يزداد الفقدان، وتزداد الهوة بين اليمن وحضارته.

الدور الإيراني في هذا الملف لا يمكن إغفاله.. فإيران، من خلال دعمها للحوثيين، لا تسعى فقط إلى تعزيز نفوذها السياسي والعسكري في اليمن، بل تستغل أيضاً الفوضى لتمويل عملياتها عبر تهريب الآثار. تلك الآثار التي تخرج من اليمن تذهب لتمويل عمليات عسكرية وتمويل مليشيات، مما يضاعف من معاناة الشعب اليمني. إنها حرب على عدة جبهات، حيث يتم تدمير المدن وسرقة التاريخ في الوقت ذاته.

السؤال الذي يبقى مطروحًا هو: من سيعيد لليمن عرشه المسروق؟ كيف يمكن استعادة تلك الكنوز التي هُربت إلى خارج البلاد؟ في ظل الوضع الحالي، تبقى المهمة شاقة، حيث تنتشر الآثار في متاحف ومعارض دولية يصعب تتبع مصدرها. ورغم جهود الحكومة اليمنية الشرعية والمنظمات الدولية، فإن الأضرار التي لحقت بالآثار والمواقع التاريخية قد لا يمكن تعويضها بسهولة. فكل قطعة تم تهريبها تمثل فقداناً لا يُقدر بثمن.

إن تهريب آثار اليمن يعني تمزيق ذاكرته وتاريخه. هذا الجرح لن يندمل حتى يتم استعادة تلك الكنوز إلى مكانها الشرعي، وما لم يتم اتخاذ خطوات جادة ضد شبكات التهريب والدول المتورطة، سيظل اليمن يفقد جزءاً من تاريخه مع كل قطعة تُهرب. سيبقى عرش بلقيس وبراقش ومعبد أوام رموزاً لما كان عليه اليمن يوماً، وما يمكن أن يكون مرة أخرى إذا ما استعاد حضارته وحريته ومؤسساته الشرعية.