مأرب.. نموذج مقاومة وبناء
د. محمد جميح
كلمة "مأرب" في اللغة تعني "الهدف والغرض والمطمح والمطمع والمراد"، وتُجمع على "مآرب"، وجاء في القرآن، على لسان النبي موسى عليه السلام عن عصاه: "ولي فيها مآرب أخرى"، وأطلق هذا الاسم على عاصمة السبئيين في اليمن، لأنها كانت تحوي كل "مأرب"، يطمح إليه الطامحون.
ولأن مأرب كانت على هذا القدر من الأهمية فقد كانت مطمع الطامعين، وقبلة الطامحين، كل حسب هدفه ومراده. وقد أرادها سليمان النبي الملك لتنضم لمملكته، وأرسل لملكتها رسالة يدعوها فيها وقومها للقدوم عليه والدخول في دينه ودولته، فيما يذكر المؤرخ الروماني سترابون أنه "في العام 24 قبل الميلاد أمر الامبراطور الروماني أوغسطوس واليه على مصر إيليوس غالوس بقيادة حملة كبيرة لضم مملكة سبأ اليمنية إلى أراضي الإمبراطورية، بعد أن سمع الإمبراطور عن غنى هذه المملكة.
جهز الحاكم الروماني لمصر جيشًا نخبويًا من نحو عشرة آلاف مقاتل لغزو السبئيين والسيطرة على مدينتهم "ماريابا"، وهي مأرب اليمنية التي تقع اليوم إلى الشرق من العاصمة صنعاء، على أطراف الرمال"، قبل أن تلتهم رمال مأرب هذا الجيش الضخم الذي لم يبق منه إلا القليل ممن نقل ما تعرض له من أهوال بسبب الرمال والرجال الذين دافعوا عن المدينة التي كانت عاصمة لتجارة البخور العالمية في ذلك الوقت، حين كان يمثل ذهب العصور القديمة الذي كانت قوافله تنطلق من مأرب مدينة الزراعة والسدود والقنوات التي سقت "أرض الجنتين" المذكورة في القرآن الكريم، وقبل ذلك في الكتب المقدسة والنقوش، ثم في كتب الرحالة والمؤرخين القدماء منهم والمعاصرين.
في سبتمبر 2014 اقتحمت مليشيات الحوثي بقوة السلاح العاصمة اليمنية صنعاء، وقبلها كانت تخوض معارك تمهيدية للسيطرة على مأرب "عاصمة المقاومة" التي تنبه أبناؤها - حينها - للخطر الداهم، وتداعوا لصلح قبلي، وهبوا سراعًا إلى "المطارح" التي تجمعوا فيها، لتكون منطلق حركة مقاومة عنيفة، وحاجز صد بين جحافل الظلام الإمامي الجديد ومأرب المدينة التي تربت على يد الصحراء، وتعلمت من الرمل، واستوعبت دروس التاريخ.
وعندما أقبلت جحافل الظلام الخارجة من بطون "الملازم" والكتب الصفراء، وعندما جاء التخلف الفكري والعتهُ الذهني، وتقيأت الطائفية أحقادها، وحلقت أسراب الجراد القادم من مجاهل التاريخ، وعندما اتصل ذلك القيادي الحوثي بأحد شيوخ مأرب يقول له، في غطرسة بالون مُحلِّق: "، لا تتعرضوا للهلاك، جنبوا أهلكم وأرضكم الحرب"، رد عليه أسعد الكامل، بقوله: "الموت ساعة والمذلة دايمة"، عند كل ذلك نهضت مأرب "أم التاريخ"، وكما "تنحاش" لبوة هوجم عرينها، "انحاشت" مأرب، وكما يتداعى أهل النجدة والغيرة إلى المكارم، تداعى أهلها إلى مطارحهم، وثبتوا دون المدينة الخالدة، وتعاهدوا فوق رمالها، وانطلقوا يصدون "عيال ظلام الدين" وجحافلهم من خونة الأوطان والأديان.
وفي الوقت الذي كاد عَلَم الجمهورية أن يطيح تحت أقدام "الإماميين الجدد"، امتدت له يد الملكة بلقيس فارتفع عاليًا في المدينة التي لا عَلَم فيها اليوم إلا عَلَم اليمن، ولا صوت فيها يعلو فوق صوت الجمهورية التي دافعت عنها "مطارح مأرب" التي شكلت تجربة فريدة في المقاومة والثبات.
ومن تلك المطارح تشكلت وحدات الجيش الوطني، وتداعى أبناء اليمن إلى المطارح، جاءها ضحايا الحوثي من كل صوب فآوتهم: من فجَّر الحوثيُ بيته، منحته مأرب مأوى، من فقد وطنه أصبحت مأرب له يمنًا كبيرًا، من قتل الكهنوت أباه ذهبت معه مأرب إلى المعركة، حيث فتحت مأرب قلبها للمظلومين من كل أرجاء البلاد، ونظمت صفوفهم، ودمجتهم مع أبنائها، وانطلقت بهم لا للعدوان، ولكن لصد عدوان مليشيا عرقية-طائفية خرجت تحمل كل أحقاد التاريخ، وأمراض الجغرافيا، لتصب كل ذلك على رؤوس اليمنيين الذين ثاروا ضد أعتى نظام حكم رجعي متخلف في سبتمبر عام 1962.
كثف الحوثيون هجومهم على مأرب مع نهاية 2014، طمعًا في الوصول إلى منابع النفط والغاز، واستباقًا لأي متغير إقليمي أو دولي، ولكن رجال مأرب، ومن التحق بهم حينها من اليمنيين الذين نزحوا إليها شكلوا حاجز صد أول، ليس لحماية منابع النفط، ولكن لحماية الجمهورية والثورة، والقيم الدينية والإنسانية، ضد مليشيات ترفع راية الإسلام، ودعواها دعوى التعصب والجاهلية والطائفية المقيتة، ضمن مشروع إقليمي بدأت أولى مراحله سنة 1979 في إيران، ولا يزال يهدف لتغيير حقائق التاريخ والجغرافيا، الأمر الذي دفعت بسببه المنطقة وشعوبها أثمانًا لم يكن أحد يتصورها.
كثف الحوثيون هجومهم على مأرب حينها، لأنها كانت تشكل آخر قلاع الجمهورية، بعد أن وصلوا إلى عدن، وسيطروا على السواحل الجنوبية لليمن، كثفوا هجومهم عليها، لأنهم يخشون من نجاح نموذجها، يخافون أن تشكل مأرب شعلة أمل، وعامل تحفيز لليمنيين للنهوض والدفاع عن ميراث الثورة والجمهورية. أراد الحوثيون وأد "مقاومة مأرب" سريعًا، كي تقضي على أمل اليمنيين في مقاومة مشروعهم، ولكن مأرب صمدت، رغم كل الجراح والدماء الغزيرة العزيزة التي سفكتها مليشيات طهران في اليمن، في سبيل السيطرة على "عاصمة المقاومة" التي أحبطت أمل الحوثيين في السيطرة على كامل التراب اليمني.
ومرة نشرت وكالة أنباء إيرانية تصريحًا، يقول: "لنصومن غدًا في مأرب، ولنفطرن على تمرها"، وكان أن صام الإيرانيون وأدواتهم المحلية سنوات طويلة، دون أن يفطروا على "تمر مأرب"، أو "ذهبها الأسود" الذي انتحر الحوثيون دون الوصول إليه.
لم تكتف مليشيات إيران في اليمن بالهجوم العسكري الأضخم الذي قاده، وخطط له خبراء الحرس الثوري الإيراني للسيطرة على مأرب، ولكن عناصر المليشيات وقياداتها شنوا أوسع هجوم إعلامي على مأرب، هجوم منسق، تداعت له أبواق الإيرانيين التي زرعوها في كل من اليمن والعراق وسوريا ولبنان، وغيرها من بلداننا العربية التي تفاخر الإيرانيون بالسيطرة على عواصمها الأربع.
وَصَموا مأرب بالإرهاب، حاولوا "دعشنتها"، ونسبتها للقاعدة، قالوا إن فيها "أحفاد يزيد" و "معسكر النواصب"، ولجؤوا لتكفير مقاومتها، وألفوا الحكايات المفبركة، ودبلجوا الكثير من الأوهام والأقاصيص لتشويه تلك المدينة الصامدة، ووصم أهلها بالتخلف والهمجية، وقطع الطريق، ونهب وقتل المسافرين، رغم أن مأرب لم تقطع عنهم حينها منتجات الطاقة، حرصًا على عدم الإضرار بإخوتها في مناطق سيطرة المليشيات، وفي الأخير تساقطت تلك التهم، فيما تمضي مأرب على خطا الراقد العظيم في ترابها، شهيد اليمن الكبير، وقائد ثورتها، الشهيد القائد: علي عبد المغني رحمه الله.
لم تكن مأرب في يوم من الأيام داعية حرب وخروج على الإجماع الوطني، بل إن الحوثيين أنفسهم هم الذين انقلبوا على الجمهورية، واعتدوا عليها، ولم يكن أمام مأرب إلا أن تقف وقفتها التاريخية، في أوقات عصيبة، قبل تدخل التحالف العربي بشهور عديدة، ذلك أن مأرب كانت تعي أن ثمن مقاومة الحوثيين – مهما كان باهضًا – إلا أنه لن يكون أغلى من ثمن الاستسلام لهم، وهو الأمر الذي أدى الي جعل مأرب تعض على جراحها، وتتصدى لمشروع الخراب الذي جلبه الحوثيون من خارج حدود اليمن، بل ومن خارج حدود الوطن العربي، كما هو معروف.
وكما وقفت مأرب - أمس - نموذجًا للمقاومة فإنها تقف - اليوم - نموذجًا للبناء، حيث تتوسع في المعمار والمشاريع، وتحتشد بذاتها وبمن وفد إليها من أبناء اليمن الذين وجدوا فيها الحماية والمأوى، وحملوا مشروعها الجمهوري، في مقابل المشروع الإمامي، في نسخته الحوثية الطائفية.
وفيما تمضي مأرب لفتح الجامعات والمدارس يعطل المليشاويون المدارس، ويخربون التعليم، ويتهمون أساتذة الجامعات بنشر الإلحاد والعمالة للمخابرات الأمريكية، والخيانة للوطن، في هدف واضح يتمثل في إفراغ الجامعات اليمنية من عقولها، جريًا على منوال "الثورة الثقافية" الإيرانية التي أفرغت الجامعات الإيرانية من كل معارض لسياسات الخميني، ثم حكمت على الآلاف منهم بالإعدام، في محاكمات هزيلة معروفة.
واليوم، وفيما تطرح مشاريع السلام الملغوم، هنا وهناك، يتحتم على اليمنيين أن يسلكوا طريق مأرب، أن يستلهموا نموذجها في الاستعداد للسلام، عن طريق المزيد من مراكمة القوة، استعدادًا لعدوان يعرف اليمنيون أن الحوثي سيظل يتمسك به، لأن الحرب هي خياره الوحيد للبقاء في السلطة ونهب الثروة، حيث لا مشروعية لسلطته، إلا بقدر ما يمتلك من قوة وسلاح.