عن الذكرى العاشرة لمطارح الكرامة نخلا والسحيل
نبيل البكيري
للمجتمع اليمني خصوصياته التي لا يمكن تجاوزها في أي تقييم أو قراءة بحثية لهذا المجتمع، ومن أخص خصوصيات هذا المجتمع هي البنى الاجتماعية القبلية كأحد أهم مكونات هذا المجتمع الذي تشكل فيه القبيلة أهم وحدة بنائية في تركيبته الاجتماعية، والقبيلة في الواقع اليمني جزء لا يتجزأ من بنيته التي يتشكل منها وأهم وحداته البنائية وسماته الهوياتية الرئيسية.
والحديث عن القبيلة حديث طويل وحوله الكثير من الجدل واللغط الذي يقترب حينًا من الواقع ويبتعد أحايين كثيرة في قراءته للقبيلة ودورها في الواقع الاجتماعي والسياسي لليمنيين، وثمة الكثير من المقولات التي صُكت حول توصيف هذا الدور للقبيلة اليمنية بشكل سلبي، وهي توصيفات أقرب ما تكون لمقولات أيديولوجية جامدة استوردت من خارج سياق البحث الاجتماعي اليمني والاشتباك مع قضاياه ومشكلاته ومعرفتها.
ولذا نحن بحاجة ماسة اليوم لإعادة النظر بكثير من تلك المقولات وإعادة قراءتها في ضوء التحولات الكثيرة في المشهد اليمني سياسيًا واجتماعيًا وثقافيًا، فبعض تلك المقولات التي كانت تفيد بأن القبيلة عائق من عوائق وجود الدولة وقيامها في اليمن، وهي مقولة تسربت بقوة للحقل البحثي والسياسي بشكل مبالغ فيه، والأكثر غرابة هو سطوة هذه المقولة على كثير من الكتابات بدون حتى قليل من المنطق البحثي اللازم لإثبات مثل هذه المقولة.
السؤال هنا ما الذي دفعنا لمثل هذا الحديث اليوم ، هذا هو السؤال الذي يستوقفنا وسيدفع بنا لإعادة تقييم وقراءة واقع القبيلة اليمنية وتحولاتها في ضوء كثير من التحولات اليمنية التي شاهدناها ولا نزال نشاهدها اليوم ، فالقبيلة ليست قالبًا واحدًا جامدًا لا يقبل التحول ولا التبدل؛ بل هي جزء من مجتمع متحول ومتبدل على الدوام، و يستوقفنا في هذا السياق حدث مهم جدًا ينبغي أن نقف عنده كثيرًا.
هذا الحدث الأبرز هو حدث تشكيل ما سٌميت بمطارح نخلا والسحيل التي تأسست في محافظة مأرب في ١٨ سبتمبر أواخر العام ٢٠١٤، ومطلع العام ٢٠١٥م، والتي مثلت نواة لتأسيس المقاومة الشعبية التي صدت مليشيات الانقلاب الحوثي باكرًا عن مأرب وكان إعلانها بمثابة إنذار مبكر في عموم اليمن لمواجهة هذا الانقلاب الطائفي البغيض الذي تمكن من إسقاط الدولة اليمنية في ٢١ سبتمبر ٢٠١٤م بإسقاط العاصمة اليمنية صنعاء لعوامل عدة داخلية وخارجية استفادت مليشيات الحوثي ومن يقف خلفها من توظيفها والاشتغال عليها وفي القلب منها الانقسام اليمني.
أما مطارح نخلا والسحيل فقد شكلت مرحلة فارقة في تاريخ القبيلة والمجتمع اليمني راهنًا، حيث تداعت القبائل اليمنية في مأرب بكل قوتها متجاوزة الكثير من التحديات والعقبات على كافة المستويات، وخاصة ما يتعلق بالخلافات والنزاعات القبلية الداخلية التي كانت تحول دون أي توحد في مواجهة جائحة الانقلاب الحوثي الذي كان يشتغل على زيادة مثل هذه الخلافات والصراعات التي تغذى ويتغذى منها الانقلابيون ولايزالون يعملون بكل قوة على إذكاء نار الصراعات البينية بين القبائل اليمنية والمكونات المجتمعية والسياسية اليمنية حتى الآن.
إن المجتمع اليمني في معظمه مكون من قبائل مختلفة وإن الاختلافات اليوم فيما بينها راجعة بدرجة أو بأخرى لمقدار ما تحصلت عليه هذه القبائل من فرص في التعليم والانخراط الاقتصادي والتنموي، ومقدار ما تحصل عليه أفرادها من مشاريع تنموية وتعليمية، وأنه كلما انخرطت القبيلة في عجلة التنمية والتعليم كلما كانت أكثر قربًا وانخراطًا ودفاعًا عن فكرة الدولة، وأنه كلما كانت بعيدةً عن مشاريع التنمية والتمدين كلما سهل اختراقها من قبل المشاريع غير الوطنية؛ طائفية كانت أو جهوية، ومن ثم سهولة تجنيد أفرادها في هذه المشاريع غير الوطنية.
ولهذا كله، أعتقد أن ما حدث في مطارح نخلا والسحيل يشكل فتحًا جديدًا في مجال الدراسات البحثية للقبيلة اليمنية ومسار تحولاتها وأدوارها وديناميكيتها السياسية والاجتماعية والثقافية؛ لأن ما جرى في المطارح يمثل انقلابًا في مجال التصورات والرؤى والأحكام المسبقة حول القبيلة اليمنية وسلبية أدوارها في المشهد السياسي، مثل هذه المقولات لا تستند على حقائق بقدر استنادها على إكليشات وأحكام جاهزة ومسبقة في رؤية القبيلة اليمنية.
لكن قد يقول قائل أن ما قامت به قبائل مأرب في نخلا والسحيل لم يتكرر في بقية المناطق القبلية اليمنية الأخرى، وبالتالي تبقى قبائل مأرب حالة استثنائية خاصة، وفي هذا الرأي قليل من الوجاهة وخاصة فيما يتعلق بما سُميت بقبائل طوق صنعاء، والتي لاشك كان لها دور سلبي إلى حد كبير؛ بل وانخرط البعض منها في صف الانقلاب، لكن بالمقابل انخرط البعض الآخر في صف الشرعية والدفاع عنها، كما هو حال قبائل أرحب التي واجهت الحوثي منذ اللحظة الأولى، وبالتالي يبقى الحكم العام على كل القبائل اليمنية حكمًا غير دقيق؛ خاصة وأن المشهد العام مليء بالشواهد والأحداث التي تقول أنه لا يمكن تعميم أي حكم على مشهد القبائل اليمنية، فقد انقسمت في مواقفها بشكل كبير، وهذا الانقسام ساهم أيضًا في تفكيك وحدتها وحِدة الاستقطابات، التي ساهمت بدورها في ضعف تماسك القبيلة مما سهل للحوثي مهمته الانقلابية .
يدرك الحوثي جيدًا اليوم أن بقاءه مرهون في حالة الصدام الدائم والانقسامات المتتالية بين القبائل اليمنية، ولهذا يسعى ويحرص على سحق أي تماسك لهذه القبائل وأي شكل من أشكال الوحدة والألفة بينها، ويسعى بقوة لخلق فجوات وتوسعة الخلافات بين هذه القبائل؛ لأنه يدرك جيدًا أن وحدة القبائل اليمنية هي عائق استمرار سلطته الانقلابية، ولهذا يستميت الحوثي في دق إسفين الخلافات دائمًا بين هذه القبائل، ويسعى لزرع الخلافات والصراعات من خلال خلايا عدة منتشرة في معرفات مجهولة أو معلومة في وسائل التواصل في الحديث عن صراعات قائمة بين هذه القبائل وأن القبيلة الفلانية أقوى وأفضل من القبيلة العلانية، وأن القبيلة الفلانية خانت وتلك باعت وهلم جر من هذه المصطلحات الخلافية لزرع الشقاق بين القبائل وضرب وحدتها وتماسكها .
ولهذا كله فالاحتفال بتأسيس مطارح نخلا والسحيل في ذكراها العاشرة ليس عبثًا وإنما مطلب وطني وواجب أخلاقي يجب أن نحتفي به ونعيد قراءة هذا الحدث في سياقاته، ونتائج اليوم والفارق الكبير الذي أحدثه في مسار استعادة الدولة اليمنية المنقلب عليها، حيث لا يزال لهذه المطارح مكانة خاصة وعظيمة في وجدان اليمنيين؛ بأنها كانت بمثابة النواة التي تخلقت عنها فكرة المقاومة الشعبية في المناطق القبلية على الأقل بالنظر إلى فكرة المقاومة الشعبية الأخرى التي تفتق عنها المشهد السياسي والعسكري اليمني في كل من تعز عاصمة المقاومة والثورة وعدن أيضًا، وكيف لعب شبابها دورًا مهمًا في التصدي للانقلاب الحوثي وصمدت صمودًا كبيرًا مثلما صمدت فكرة مطارح نخلا والسحيل.
إن الاحتفاء بذكرى هذه المطارح العاشرة هو إحياء لقيمة المقاومة وأهميتها في إبقاء فكرة الدولة حاضرة والعمل على استدامة روح المقاومة كمدخل حقيقي ووحيد لاستعادة الدولة اليمنية المنقلب عليها، وأن فكرة المقاومة بعد عشر سنوات لا تزال هي الخيار الوحيد لاستعادة الدولة اليمنية، وأن أسبقية مطارح نخلا والسحيل القبلية كان لها قصب السبق في تعزيز هذا المفهوم وتجذيره وإنزاله على أرض الواقع والمعركة كفكرة مقدسة لا يمكن أن يتم إغفالها أو تجاوزها بأي شكل من الأشكال.
لا تزال اليوم فكرة مطارح نخلا والسحيل هي الفكرة الجوهرية الأكثر أهمية وحضورًا في وجدان اليمنيين جميعًا، وإن كل ما جرى ويجري ليس سوى تفاصيل لا تغني أبدًا عن فكرة استعادة زخم المقاومة، والاحتفاء بذكرى تأسيسها، وخاصة في الأوساط القبلية التي هي ركيزة مهمة في مسألة استعادة الدولة وتماسك المجتمع والدفع به نحو استعادة حقوقه المشروعة من خلال فكرة المقاومة وحدها لا غيرها، فأي طريق لاستعادة الدولة لا تأتي من غير سكب الدماء الغالية رخيصة الثمن في سبيل الوطن وكرامة أبنائه وحرياتهم وحقوقهم ودولتهم، وهذا ما أسست له وقالته باكرًا مطارح نخلا والسحيل المأربية القبلية التي انضم لها وأيدها كل أحرار اليمن، حيث أصبحت مأرب اليوم هي ملاذ هؤلاء الأحرار وعاصمة المقاومة واستعادة الدولة.