يرمز إعلان الجمهورية في اليمن إلى ولادة البلاد من جديد، وإنهاء قرون من القمع والتخلف. أدت هذه العملية إلى صحوة اجتماعية وثقافية وأصبحت منارة للحرية في الحرب ضد الجهل والهياكل القمعية القديمة. وكتب الباحث نبيل البكيري لموقع فوكوس+ كيف منحت الجمهورية اليمنيين قوة المقاومة والتجديد رغم الصعوبات.
تمثل الجمهورية نقطة تحول تاريخية لليمنيين، حيث أسدلت الستار على قرون من الاستبداد والتخلف والهمجية وانهيار النظام السياسي. كان إعلان الجمهورية في اليمن بمثابة ولادة جديدة للبلاد. ونبعت أهميتها من التجارب المريرة والقاسية مع الاستبداد الديني والسياسي المتمثلة في الإمامة الزيدية في الشمال والمشايخ والسلطنات في الجنوب والشرق. ولذلك، ونتيجة للنضال الطويل ضد الظلم والتخلف والخرافة والتعصب وكل أشكال النبوءة، مثّل إعلان الجمهورية في 26 سبتمبر 1962 قفزة كبيرة إلى الأمام في تاريخ اليمن الحديث.
إن إعلان الجمهورية يعني، قبل كل شيء، التخلص من الماضي البغيض والمظلم ووضع حد له. هذه الخطوة حولت اليمن إلى مهد حضارة عمرها قرون. إن فكرة الجمهورية، كخيار للنضال الوطني، لم تكن مجرد حماسة سياسية لدى شباب الحركة الوطنية اليمنية في الشمال والجنوب، بل كانت أيضا ممثلة لصحوة وطنية.
التحرر من القيود التاريخية
إن "مرض" الإمامة الزيدية ورجال الدين التابعين لها، وهو مصدر قلق طويل الأمد لليمن واليمنيين، ويقع في قلب الصراعات والتوترات الحالية في البلاد. ويبدو هذا الوضع وكأنه مصير لا مفر منه لكل المشاكل والأزمات والأمراض الاجتماعية المتراكمة التي تواجه البلاد. وهذا مهم بالنسبة لليمن ليس فقط كمشكلة تاريخية، ولكن أيضًا كعائق أساسي أمام حل الأزمات الاجتماعية والسياسية. ولهذا السبب فإن فكرة الجمهورية هي عقيدة الخلاص السياسي والفكري والاجتماعي والثقافي لليمنيين.
وفي هذا السياق، فإن الجمهورية تتيح الفرصة لليمن لاستعادة الثقة بالنفس والتاريخ والتراث والإرادة، ولديها القدرة على نقل البلاد إلى آفاق أوسع وأكثر أمانا. وبرزت الجمهورية كحل ضروري لكسر دائرة التخلف التي يتعرض لها اليمنيون والأغلال التي تحيط بهم. وتهدف هذه الوصية الجديدة إلى إعادة إحياء المجتمع الذي طالما قيدته الإمامة الزيدية وبقاياها مثل الجهل والتخلف والمرض والفقر.
وهكذا أصبحت الجمهورية هي المفتاح لاستعادة اليمنيين إرادتهم. وبهذه الطريقة، لم يكتفوا بإسقاط نظام الإمامة الذي ظل جاثماً على قلوب اليمنيين لفترة طويلة؛ كما تمكنوا من القضاء على أحد أخطر "الاحتلالات" من خلال ضمان الوجود البريطاني في جنوب اليمن وإعادة توحيده هناك تحت اسم واحد، الجمهورية اليمنية الديمقراطية الشعبية، المكونة من 21 مشيخة وسلطنة.
كما سبق أن تم إعلان قيام الجمهورية العربية اليمنية في الشمال. وبالنظر إلى ظروف التخلف التي أحاطت بالبلاد منذ قرون طويلة، فإن اعتماد النظام الجمهوري كنظام سياسي في اليمن كان بمثابة ثورة تنويرية قبل الثورة السياسية المسلحة.
التأثير التجديدي للجمهورية
إعلان الجمهورية في اليمن كان نهجا تنويريا قبل ان يكون مطلبا سياسيا.
أن اليمنيين، الذين يعيشون في قبضة الجهل والفقر والمرض، لم يتمكنوا حتى من فهم معنى سياسة ما قبل الجمهورية، ناهيك عن طبيعة النظام السياسي الحاكم.
لقد حمل العهد الجمهوري اليمن الذي عانى من إخفاقات تفوق الخيال، من أعماق الماضي البعيد إلى باب مفتوح على المستقبل. فالجمهورية، التي فتحت حرفياً عقول وعقول اليمنيين على العالم، أنقذت اليمنيين والإسلام من أسر الخرافة والجهل. كما أعاد للإسلام معناه التنويري والتحرري كدين جاء لينقذ البشرية من ظلمات الظلم والجهل والكهانة والدجل والسحر.
لقد كان الإسلام في السابق مقتصراً على الإمام وتصوراته؛ ومهما كان رضا الإمام أو غضبه، فإن هذا الوضع يعتبر خيرا أو شرا. وكان الوضع مماثلاً بالنسبة للسلطنات والإدارات الأخرى. ولذلك، وكما أبرزت من قبل، لم تكن الجمهورية مجرد فكرة عبثية أو حالة غضب لدى الشباب في الحركة الوطنية اليمنية، بل كانت رمزا للتغيير والحرية الأوسع.
دور الجمهورية كرمز للتنوير والمقاومة
إن الجمهورية، قبل كل شيء، هي نتيجة مسار طويل من التنوير الفكري والديني والثقافي يمتد إلى كبار الشخصيات والمصلحين اليمنيين: الهمداني، نشوان الحميري، محمد بن إبراهيم الوزير، مقبالي، الجلال، الشوكاني، الزبيري ونعمان. لقد كان في البداية هدفًا للتنوير. لقد كانت الجمهورية المعلنة في اليمن تتويجا لمسيرة طويلة نحو تجديد حركة الإصلاح اليمنية، التي أشعلت نار التنوير ليس في هذا البلد فحسب، بل في العالم الإسلامي برمته، الذي كان غارقا في عصور التخلف والانهيار .
كانت المجتمعات العربية والإسلامية تعيش حالة من التخلف والانهيار نتيجة الاستعمار والانحدار الفكري والثقافي الذي كان سائدا في السابق لفترة طويلة. ولا يمكن تقييم ما قدمته الجمهورية إلى اليمن دون فهم وضع اليمن قبل إعلان الجمهورية، حيث ساد الجهل. في ذلك الوقت، كان عدد المتعلمين في البلاد منخفضًا جدًا ولم تكن هناك مدارس تقريبًا باستثناء عدد قليل من المدارس؛ وكانت تلك المتاحة عمومًا خاصة، وخارجة عن سلطة الإمامة، ولا يمكن الوصول إليها إلا للنخب. وفي فترة الجمهورية تم افتتاح المدارس والطرق والمستشفيات في كل قرية يمنية. ورغم أن معظم هذه التطورات حدثت نتيجة للجهود المدنية، إلا أن العامل الرئيسي الذي قاد الناس نحو المستقبل وشجعهم على الالتحاق بالنور هو الجمهورية نفسها.
واليوم، ورغم كل النكسات وحالة التراجع التي يعيشها اليمن بسبب نفوذ المتسللين إلى قيادة الجمهورية، عدا الناشطين الحقيقيين، فإن فكرة الجمهورية وتنويرها لا تزال حامية لها. والمقاومة ضد كل ماضي الهمجية والعنصرية و"الإمامية" الذي يقترب من اليمن واليمنيين. هو المصدر. فالفكر الجمهوري يحيط بالإمامة، ولا يختبئ خلف سوى مظهر وبقايا النظام الجمهوري، ويمنعها من استعادة المبادرات السياسية التي يحاول فرضها على الناس.
* المقال نقلا عن موقع “فوكاس بلس” - ترجمة خاصة بـ“برّان برس”