مع أن قبائل اليمن الأعلى؛ حاشد وبكيل وخولان وجبر واهنوم ودهم وحجور وغيرها، وخاصة قبيلتي حاشد وبكيل، اللتين قيل إنهما جناحا الإمامة عبر التاريخ، في مناصرتهما الإمامة للخروج على الحكومات المختلفة وتثبيت أركان الإمامة ومدها بالرجال والمال للسيطرة على المناطق اليمنية، وجعل أهلها وقوداً لاستمرار المعارك الإمامية ضد اليمنيين؛ إلا أن الإماميين -في كتبهم وتقسيماتهم الطبقية- ينظرون بازدراء لهذه القبائل، ولم يُصنِعوا لها معروفاً مكافئاً مقابل تلك المناصرة، وينظرون لها على أنها مرتزقة تبحث عما يسد رمقها لا أكثر، ومجرد رقم لتكثير السواد مقابل ما يتفضل به عليهم الإماميون من فتات.
جاء في كتاب "الدر المنثور في سيرة الإمام المنصور" (محمد بن يحيى حميد الدين) "حين كتب الإمام إلى عقال حاشد في 22 شوال 1309هـ، وحثهم على الجهاد، أجابوا بالسمع والطاعة، وكذلك حينما أبرم الإمام بين حاشد وبكيل عقداً بأن يكونوا يداً واحدة على العدو الأكبر (أي الأتراك)، وأن الصوت يجمعهم، علق المؤلف على ذلك بأنهم "ما وفوا، بل خادعوا واختلفوا"، وفي حالة أخرى ذكر "وأما حاشد فقد نافقوا وأطاعوا العجم ونقضوا العهود، وقبضوا منهم رشوة".
وقد ذم مؤلف سيرة الإمام "ذو محمد" لما تمالؤوا على الغدر، حين أغراهم أحمد فيضي، حاكم اليمن للدولة العثمانية، بتسليم أسرى معركة الجراف التي وقعت في شهر الحجة 1309هـ.
وأما خولان فقد وصفهم المؤرخ بأقبح الأوصاف والاستنقاص وقال: "وأما خولان فقد أجمعت الإنس والجان على أنهم أقل همماً من النسوان، وهم يجيبون بما لا طائل تحته بما يدل على الخذلان" وذلك حين تثاقلوا عن (الجهاد) إلى راعد" .
وعن أهل حجور وقبائلها قال مؤلف السيرة المنصورية: "كانوا لا يعرفون من الإسلام إلا اسمه، ولا من القرآن إلا رسمه"، وسرد الكثير من المنكرات التي اشتهرت في ديارهم.
ولذلك نجد الأئمة، بعد التمكين والاستغناء عن خدمات القبائل، يبدأون بتشويههم والتحامل عليهم، ثم ما يلبثون البدء بالتخلص منهم، كما فعل الإمام يحيى حميد الدين مع الشيخ ناصر الأحمر وابنه مبخوت، على الرغم من أن ناصر الأحمر هو الذي فرض يحيى حميد الدين ليكون إماماً على الجميع ووقف بقوة في وجه منافسيه، وكما فعل الإمام أحمد مع حسين الأحمر وابنه حميد أيضاً.
وقبل ذلك ما فعله الإمام المهدي صاحب المواهب مع وزيريه الحبيشي والحريبي.
فقد كان الحسين بن القاسم العياني يكافئ القبائل بمجازر رهيبة لمجرد مخالفته في مرة من المرات؛ حيث "كانت بعض القبائل خالفت الإمام المهدي الحسين بن القاسم العياني حين سار إلى (إلهان)[جبل بآنس]، فلما رجع قبض على مشايخ تلك القبائل وصلبهم منكسين، ووهب خيلهم وسلاحهم لشيعته، وألزم جماعتهم الجزية وقبضها منهم".
"وأمر العياني أن تطأ الخيل جثة محمد بن القاسم وسائر القتلى بسنابكها حتى مزقتهم في التراب كل ممزق" ..
أن يكون الغدر من القبائل اليمنية ضد الإمامة فهو عندهم من أعظم جرائم الغدر، التي تستحق معها إبادة تلك القبائل ونهب أموالهم وتدمير قراهم وإحراقها، أما الغدر من قبل الإمامة بالقبائل فهو في نظرها عقاب إلهي ملزم لها، وهي من الحذاقة السياسية، كما فعل المنصور حسين بن القاسم بالنقيبين الماس والشيخ علي الأحمر وقبائلهما.
كانت الإمامة تتعمد تجويع القبائل بالسيطرة على مواردها المالية وهدم وتخريب قراها حتى تبقيها في طور الحرمان والحاجة، حتى إذا احتاجت الإمامة للغزو استعانت بهذه القبائل وسلطتها على غيرها، مقابل استباحتها كمكافأة لها من قبل الإمامة، بينما القبائل تندفع شرهة نحو هذه الغاية وتعوض شيئاً من حرمانها لدى المناطق والقبائل الأخرى، وهكذا تبقي الإمامة جذوة الصراع والحروب مشتعلة لا تهدأ، بينما هي تغرس مشروعها الإمامي الطائفي في نفوسهم وتوسعه بسهولة بعد القضاء على عوامل المقاومة لدى بعض المناطق من علم وتفكير وعزة ونخوة واقتصاد، فيسهل غزوها واصطيادها.
من هذه المنطلقات خلصت الإمامة إلى مقولة "جوع كلبك يتبعك"، وفعلاً كانت نتائجها فعالة بعد ضرب مراكز التنوير التثويرية لدى القبائل التي يمكن أن تكون رافعة علمية فكرية وثورية.
في وقت الحروب التنافسية بين الأئمة، وصراعهم على الإمامة، يستخدمون القبائل وقداً لهذه الحروب، وتصفية الحسابات، حتى اقتتل الأئمة بينهم البين، كما في عهد المهدي عبد الله بن أحمد الرسي والهادي أحمد بن علي السراجي ما بين أعوام 1816 و1835م.
قرر الإمامان الصلح بينهما ووحدة قوتهما في مواجهة أي مد خارجي من قبل العثمانيين، فاتفقا على أن يجتمعا مع بعضهما، وكان الهادي غاضباً للدمار والدماء الذي حدث لممتلكات أصحابه، فقال له المهدي: هل أنهدم بيتك أو بيتي هل قُتل أولادك أو أولادي؟!
قال الهادي لا، فقال المهدي: "الحجر من القاع والدم من رأس القبيلي"!
في الحقيقة هي القبائل التي عملت مرتزقة لدى الإمامة مقابل النهب والسلب ضد الآخرين دون رادع من أخلاق أو وازع من دين.
فقد عرفت كثير من القبائل الشمالية في عصور مختلفة بتأجير الارتزاق للساسة مقابل استباحة بعض المدن اليمنية سلباً ونهباً. حتى أنهم طلبوا رسمياً من الإمام أحمد بن سليمان استباحة صنعاء أو عدن لنصرته على السلطان حاتم بن أحمد اليامي، وذلك سنة 545هـ. وقالوا: "يامولانا، قد أخذنا بسببك لقمة كبيرة، وإنا نحب أن تسوغها لنا وتهب لنا صنعاء أو عدن في هذه المرة ونخرج حيث شئت إما بيحان أو حضرموت أو نجران أو صعدة. فقال: أما صعدة والجوف فهي لي، وأما غيرها فأخشى أن تحصل لكم لقمة أخرى فتأخذوننا، وغضب عليهم وعاد إلى عمران الجوف" ( ).
لم تغير الإمامة الحديثة نهجها في التعامل مع القبائل؛ فهي تحتمي بها وتجندها في مصالحها إلى أن تتقوى ما تلبث أن تغدر بها وتعاقبها باسم الدولة وتنهب أموالها وتقتل رجالها، وتبقى دائرة الصراع هذه دوارة إلى تعي هذه القبائل وتخرج من ظلماتها إلى نور العلم والمعرفة والوطنية والدولة الحديثة.