تقرير خاص أعده لـ“برّان برس” - زكريا الغندري:
تعد الحضارة اليمنية من أقدم الحضارات في العالم، وتأتي بدايتها في نهاية العصر الحجري، حسب ما ذكره المؤرخ الفرنسي فيجيوم شارلو، في كتابه اليمن موطن الآثار.
وتعتبر اليمن مهد الحضارات القديمة، بما تمتلكه من آثارٍ تاريخية زاخرة، تتنوع بين معابد قديمة، ومدن شيدت بفنٍ معماري فريد، لتشكل في مجموعها، كنوزاً ثقافيةً تعكس تاريخ اليمن العريق الممتد في عمق التاريخ.
هذه الثروة التي تقدر بقيمتها التاريخية؛ تواجه تهديدات كبيرة، في ظل التنافس المحموم بين مافيا الآثار العابرة للحدود، لتهريب الآثار اليمنية وبيعها في المزادات العالمية، حتى باتت مهددة بالانقراض.
يصف الباحث المهتم برصد وتوثيق أثار اليمن المنهوبة، عبدالله محسن، ظاهرة تهريب الآثار اليمنية بأنها "برزخ كئيب يلتهم مئات القطع الأثرية سنويًا”، موضحاً في تصريح لـ“بران برس” أن عدد القطع المنهوبة خلال سنوات الحرب يزيد عن 20,000 قطعة بحسب تقديرات شبه رسمية.
ووفق الباحث فإن هذه الظاهرة تتوزع بين ثلاثة محاور: الأول “عمليات النبش والتنقيب العشوائي غير القانوني للمواقع الأثرية في العديد من المحافظات والمديريات بشكل شبه علني وواسع تحت عين السلطات وتغاضيها”.
وهذه العمليات، وفق محسن، أدت إلى “تدمير العديد من المواقع، وإنشاء سوق مزدهر لبيع القطع الأثرية يمتد من الجوف إلى عدن، ومن سواحل البحر الأحمر إلى أقاصي المهرة.
أما المحور الثاني للظاهرة، يتعلق بالمتاحف الحكومية وسرقتها وتلف القطع الأثرية في بعضها نتيجة للإهمال والقصف والتدمير. فيما المحور الثالث والأكثر تأثيرًا، هو “تهريب ما نتج عن المحورين السابقين إلى الخارج، وتزوير وثائق الأصالة وفواتير بيع ووثائق تصدير لجعل بيع آثارنا في المزادات قانوني ومشروع”.
وعن مكافحة الظاهرة، يقول “محسن” في حديثه لـ“برّان برس”، إن إيقافها “يقتضي التدخل الفوري من الحكومة والأجهزة التابعة لها، وتحييد ملف الآثار الصراعات والتجاذبات السياسية، ومساهمة المجتمع المحلي في إيقاف عمليات الحفر والترويج والبيع للآثار”.
ووسط غياب التوجه الرسمي الحاسم لحماية كنوز اليمن الأثرية والحضارية، تتصدى الجهود الشعبية لهذا العبث حيث قرر نشطاء يمنيون إطلاق تحديد الـ23 من يونيو، يومًا وطنيا للآثار اليمنية بدءً من عام 2022 الماضي.
وللعام الثالث، يحتفي النشطاء بهذا اليوم، كنوع من الرد على محاولات العبث بآثار الحضارة اليمنية، ولتعزيز الوعي بهوية اليمن الحضارية، ومفهوم الإرث الحضاري، بما يساعد على الحفاظ على الآثار اليمنية.
وتعتبر الدكتورة منال دماج، وهي باحثة في التاريخ اليمني والحضارة اليمنية القديمة، "الاحتفاء بهذه المناسبة مهم جدًا”، مشيرةً إلى إنه تم التوافق على هذا التاريخ “لإعادة الاعتبار لتاريخ اليمن العريق، واعتزازا وفخر بحضارتنا وارثنا التاريخي الضارب عروقه في اعظم الحضارات العالمية القديمة”.
وتشير “دماج” في حديث لـ“برّان برس”، إلى أن هذا الاحتفاء يأتي “تذكيرا لمسؤولي الدولة والمواطن اليمني بأهمية الآثار، والدعوة للحفاظ والاهتمام بها واستعادة الآثار المنهوبة والمهربة، والاهتمام بالمتاحف وإعادة تأهيلها، والاهتمام بالآثار الثابتة وحمايتها، وكذا تذكير كل الجهات المعنية المتخصصة بالآثار مثل اليونيسكو وغيرها لحماية المعالم الأثرية الحضارية”.
وتوضح أن “سبب عدم الحفاظ على آثار اليمن من التهريب والتدمير الممنهج المنظم والتزوير والإهمال، لتدمير حضارتنا، وبتر الجذور التاريخية الضاربة في أعماقها وتشويه تراثنا وطمس هويتنا، حقدًا، وكي يعتلون على حساب التاريخ المجيد لليمن”.
وحول هذا اليوم، يقول الدكتور عبدالله المعالم، أحد مؤسسي فكرة يوم الآثار اليمنية، إن “يوم الآثار أصبح مناسبة يتجمع فيها اليمنيون للاحتفاء بموروثهم الثقافي والتاريخي، وتذكير العالم بأهمية هذه الآثار”.
ويوضح “المعالم”، في حديثه لـ“برّان برس”، أن “فكرة تخصيص يوم للآثار اليمنية جاءت من عمق تاريخنا اليمني العظيم، حيث تعكس النقوش المسندية على آثارنا المجد والعراقة التي كانت عليها أمتنا قبل الاحتلال الهاشمي العنصري”.
ويضيف أن الهدف من هذه الفكرة هو “تسليط الضوء على أهمية الحفاظ على تراثنا الأثري، وتعزيز الوعي المجتمعي بأهمية هذه الآثار وحمايتها من لصوص الآثار وسارقي التاريخ”. مشيرًا إلى أنه “بعد ثلاثة أعوام، يمكننا أن نرى الأهمية الكبيرة لهذا اليوم في تعزيز الروح الوطنية وحماية الهوية اليمنية.
ويبدي “المعالم” شعوره بالأسف لأن الحكومة اليمنية المعترف بها دوليًا لم تعتمد “حتى الآن يوماً وطنياً، على رغم أهميته”، معتبراً “الاعتراف الرسمي بهذا اليوم خطوة مهمة لتعزيز الجهود المبذولة في الحفاظ على تراثنا الأثري“ كما “لم توقف العبث الذي تتعرض له الآثار من نبش وتهريب وبيع”.
وتحدث الناشط “المعالم”، عن “جهود مستمرة من ناشطين ومثقفين عن طريق مطالبة الحكومة بالتحرك عبر الجهات المعنية لحماية الآثار، ودعوة اليونسكو لتساهم في الحفاظ على تراثنا الثقافي للأجيال القادمة، وتعيد لليمن مكانته الحضارية على الخريطة العالمية، والتراث اليمني جزء لا يتجزأ من التراث الإنساني العالمي”.
وقال إن “حراك الأقيال لم يقتصر على الاحتفال بيوم الآثار فحسب، بل يسعى إلى تأسيس منظمات ومبادرات شعبية لحماية الآثار في المناطق الأثرية ومنع تهريبها واستعادة الآثار اليمنية من المتاحف والمزادات العالمية”.
ودعا “مجلس النواب إلى سن قوانين صارمة وفعالة لمراقبة ومحاسبة مهربي الآثار والمسؤولين عن العبث بها”. مشدداً على ضرورة “وضع عقوبات شديدة تردع من يتسللون إلى التراث الثقافي اليمني وينهبونه، وتعزيز الرقابة على حركة التجارة الدولية في الآثار”.
وعن دور منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو)، في استعادة الآثار اليمنية، يقول سفير اليمن لدى اليمن، محمد جميح، إن “اليونيسكو تساعد فيما يخص استعادة الاثار، في التواصل مع الدول التي توجد فيها آثار يمنية”.
وقال “جميح” في حديث لـ“برّان برس”، بأنه حين يعلم بوجود قطعة أثرية، في أي بلد من البلدان، يقوم بالتواصل مع اليونيسكو، والتي بدورها تتواصل مع السلطات المعنية، وأحياناً بشكل مباشر مع أصحاب المزادات”.
ومحاولات اليونيسكو، وفقا لجميح، تنجح أحيانًا في إيقاف المزاد، وأحياناً لا تنجح، مشيرًا إلى أن نجاح الأمر “يعتمد على عدد من العوامل، وعلى مدى استجابة المؤسسات المعنية في طلب اليمن بالتعاون مع اليونيسكو".
وأردف: “يجري حاليًا الإعداد لقاعدة بيانات عامة لكل الآثار اليمنية المفقودة، وهذه القاعدة ستمكننا من التخاطب، لأننا ليس لدينا قاعدة بيانات بها، أحياناً لا نستطيع المطالبة ولا ندري أين هي ولأننا لا نعرف هل هي مفقودة أم لا، لأن كثيراً من الآثار المهربة هربت من المواقع، ولا ندري ما هي طبيعة الاثار هناك، فلم تجري عمليات تنقيب"
بدوره، أكد الدكتور سالم هاشم، رئيس قسم السياحة والآثار بجامعة إقليم سبأ، “أهمية تعزيز الجهود لحماية هذه الآثار من التحديات التي تواجهها ومن أبرزها الصراع المسلح الذي تسبب بأضرار بالغة، نتيجة القصف والإشتباكات، فضلاً عن اتخاذ بعض المواقع الأثرية كمعسكرات”.
ولفت في حديث خص به “برّان برس”، إلى عمليات “النهب والسرقة والفوضى وانعدام الأمن، والتخريب المتعمد من قبل الجماعات المتطرفة التي تستهدف تدمير المعالم الثقافية والتاريخية، والإهمال ونقص الموارد، والتحديات البيئية”، إضافة الى “نقص الوعي لدى الأفراد، وتدهور البنية التحتية”.
وأشار إلى أن “هناك محطات في طريق مواجهة التحديات، تمثلت في اللقاء التشاوري الأول لحماية التراث الثقافي بعنوان (التحديات والحلول) في أكتوبر الماضي، برعاية عضو مجلس القيادة الرئاسي، محافظ محافظة مأرب اللواء سلطان العرادة”.
وأوضح الدكتور سالم، أن اللقاء التشاوري، خرج “بعدد من التوصيات التي تحقق الهدف، وتضمن كل ما من شأنه حماية التراث الثقافي في ظل ما تشهده اليمن اليوم من حالة تجريف طالت الهوية اليمنية الجامعة.
ولفت إلى تأكيد عضو مجلس القيادة الرئاسي اللواء سلطان العرادة، في الجلسة الختامية للقاء التشاوري على ضرورة رفع تلك التوصيات لرئيس مجلس القيادة الرئاسي لتصبح برنامج عمل”.
وأكد أن “الحفاظ على الإرث الحضاري اليمني هو مسؤولية جماعية تتطلب تضافر الجهود بين الحكومة والمجتمع المحلي والمنظمات الدولية”.
واعتبر أن “الآثار ليست مجرد بقايا من الماضي، بل هي جزء حيوي من حاضرنا ومستقبلنا، تروي قصص الأجداد وتلهم الأجيال الجديدة للإبداع والابتكار”.
وعن دور الإنسان اليمني في الحفاظ على التراث، يقول محمد سبأ، رئيس الدار اليمنية للكتب والأزياء اليمنية بالقاهرة، في حديث لـ“برّان برس”، إن “اليمني حافظ على التراث عبر التاريخ”.
وعلى سبيل المثال، قال إن “الأزياء، كالمعوز والعسيب، تحمل زخارف متوارثة من زخارف الحضارة اليمنية القديمة، وهي بذاتها تمثل زي يمني متوارث منذُ الأف السنين، وحافظ عليه الإنسان اليمني، واستمر بارتدائه حتى وقتنا الحاضر”.
وأضاف: “إذا تأملنا في التماثيل اليمنية القديمة نجد أن أغلبها بالنسبة للرجال يرتدون المعوز والجنبية والخنجر اليمني، كتمثال "معد يكرب"، وتماثيل حضارة دولة "أوسان"، وتماثيل حضارة دولة "حضرموت" والتماثيل التي وجدت في" مأرب"، والتماثيل التي وجدت في "ظفار"”.
وتابع: “يمكننا مقارنة هذه النقوش بزخارف العمارة اليمنية أو بأشكال النباتات، والورود والزهور التي تظهر في الطبيعة اليمنية؛ سنجد أن النقوش مستلهمة من أشجار النخيل كما في الأزياء الحضرمية، ومن زخارف المنازل كما في الستارة الصنعانية”.
وأردف: “ونجد أيضاً أن زخارف المعوز نفسها مستلهمة من زخارف العمارة اليمنية كأسطح المساجد القديمة، وهي زخارف يمنية متوارثة منذُ القدم موجودة ومكررة على الأزياء، وعلى العمارة، وعلى الفضة، والعسيب أو حزام الجنبية وسطحها”.
وتأتي الفعاليات والدعوات الشعبية المتصاعدة لمواجهة تهريب الآثار، كامتداد لجهود الإنسان اليمني في الحفاظ على تاريخ اليمن وموروثه الحضاري، وتحفيز الجهود الحكومية- شبه المنعدمة- للقيام بواجباتها في هذا السياق.