تقرير خاص أعده لـ“برّان برس” - شعيب الأحمدي:
منذ بدء الحرب في البلاد التي أعقبت اجتياح جماعة الحوثي المصنفة عالميًا بقوائم الإرهاب للعاصمة اليمنية صنعاء في 21 سبتمبر/أيلول 2014، وسيطرتها على مؤسسات الدولة بما فيها البنك المركزي اليمني، شهد الاقتصاد اليمني انهياراً متواصلًا بشكل غير مسبوق.
بسيطرتها على البنك المركزي واستغلاله في التحكّم في قطاع المصارف والبنوك وتمويل عملياتها العسكرية، أسست الجماعة للصراع المحتدم مع الحكومة اليمنية المعترف بها دوليًا التي لجأت إلى نقل البنك المركزي إلى مدينة عدن المعلنة عاصمة مؤقتة للبلاد في سبتمبر/أيلول 2016، لإيقاف “العبث الحوثي”.
ومع استمرار الجماعة في اتخاذ خطوات لتعميق الانقسام النقدي في البلاد، اضطر البنك المركزي اليمني في عدن، لاتخاذ قرارات وصفت بـ“الحاسمة” لحماية القطاع المصرفي، والرقابة على البنوك، وضمان المعالجات الاقتصادية لتوحيد العملة الوطنية، وتعزيز قيمة الريال، والحفاظ على سعره وتأمينه مستقبلا.
ومع تدهور العملة المحليّة، أصبح المواطن يعيش ظروفًا معيشية صعبة جراء ارتفاع الأسعار المستمر في ظل عدم استقرار العملة المحلية. فللمرة الأولى في تاريخ اليمن، يتجاوز الدولار الـ1900 ريال للدولار الواحد، ويتعدى الريال السعودي الـ 500 ريال، في مناطق سيطرة الحكومة، في ظل مؤشرات تنبئ بمزيد من التدهور في العملة المحلية، خصوصًا مع عدم وجود أي إجراءات حكومية لمنع مزيد من التراجع في قيمة الريال، حسب مراقبون.
ووفق خبراء فإن استمرار توقف تصدير النفط منذ أكثر من عام ونصف، في ظل الصراع المالي والانقسام النقدي عوامل رئيسية لتدهور الريال اليمني الذي تضرر كثيرًا جراء تداعيات الحرب.
وأوضحت إحصائيّات رسمية، أن الحكومة اليمنية في أكتوبر/تشرين الأول 2022، فقدت أكثر من 80% من إيراداتها بعدما استهدف الحوثيون منشآت النفط في مأرب شرقي البلاد.
المحلل الاقتصادي عادل العامري، يقول إن الحكومة اليمنية أجبرت في أكتوبر/تشرين الأول 2022 على توقيف تصدير النفط والغاز تحت التهديد الحوثي بقصف مينائي الضبة والمشيمة وقصف السفن التي تقترب منهما.
واعتبر “العامري” في حديث لـ“بران برس“، أن هذا “هو المسمار الثاني في الجسد الاقتصادي للحكومة، بعد مسمار الانقسام النقدي في أكتوبر 2019، وقبلهما تحويل النشاط التجاري وحركة السفن إلى ميناء الحديدة”.
وقبل استعداد الحوثيين لدق المسمار الأخير في جسد الاقتصاد اليمني، يقول “العامري”، إن “البنك المركزي تنبه وقرر استعمال ما لديه من أسلحة فعالة، واتخذ قرارات توحيد الشبكة المالية واصلاح نظام الحوالات الخارجية، ونقل مراكز البنوك إلى عدن، وما تبعه من إلغاء تراخيصها، وإلغاء تراخيص الصرافين المخالفين وقرار إلغاء وسحب العملة القديمة.
ويشير “العامري” إلى أن “هذه القرارات “أدت إلى عزل الحوثين ماليا عن العالم. وأصبحوا اليوم مأزمين ومضطربين في القرارات والتصرفات، وهنا بداية النهاية كما يبدو”.
وكانت جماعة الحوثي قد اتخذت قرارات “تدميرية” للاقتصاد، تدعم انقسام العملة المحليّة، بإعلانها في ديسمبر/كانون الأول 2019م منع استخدام العملة الوطنية الصادرة من مركزي عدن. وأتي القرار، وفق خبراء، ضمن الحرب التي تشنها الجماعة على الاقتصاد والقطاع المصرفي باليمن.
وذكر محافظ البنك المركزي اليمني، أحمد المعبقي، في تصريح صحفي سابق، أنه تم توثّيق 20 انتهاكًا ارتكبتها الجماعة الحوثية خلال العام الجاري، مؤكدًا قيامها بـ“تسيس القطاع المصرفي واختراق كل المعايير والقوانين”.
وفي صعيد متصل، بالانقسام الاقتصادي بين مركزي عدن المعترف به ومركزي صنعاء المختطف منذ 2014، أعلنت جماعة الحوثي الانقلابية في إبريل /نيسان الماضي، إصدار عملة معدنية مزورة فئة 100 ريال، في محاولة لمواجهة أزمة سيولة خانقة تضرب مناطق سيطرة الجماعة جراء تلف العملة القديمة.
وما ساهم بتعزيز الانقسام الاقتصادي، وفق الخبراء، هو إعلان جماعة الحوثي في إبريل /نيسان الماضي، إصدار عملة معدنية فئة 100 ريال، وهو ما رفضها البنك المركزي في عدن، ووصفها بـ“العملة المزورة”.
وحول إصدار هذه العملة، قال الصحفي الاقتصادي، محمد الجماعي، لـ“بران برس” إن “إصدار العملة لمعدنية لا يكون إلا للكسور وليس للفئات، وهو بهذا الإجراء المخالف ارتكب جرما أكبر بإلغائه الفئات النقدية الأصغر”.
واعتبر “الجماعي” هذه الخطوة “إضعافًا لقيمة العملة مجددًا، وفتح الباب على مصراعيه لتزوير العملة، إذ صار بإمكان أي جهة صك العملة خاصة الاصدار المزيف”.
ويرى الصحفي الإقتصادي، أن “قرارات مركزي عدن شكلت ضغطًا كبيرًا في الآونة الأخيرة، وردًا عليها قامت الجماعة بعدد من الإجراءات لإرباك قرارات وعرقلة تنفيذها”.
وعن تضخم المؤشرات المالية والنقدية “المخيفة والمحبطة” كما يصفها الخبراء كونها تمضي غالبيتها في مسار يراكم عجز الاقتصاد بشكل مستمر، لفت الباحث الاقتصادي، هشام السامعي، إلى ما ذكره تقرير البنك الدولي الصادر في مارس/آذار المنصرم، بتوقعه أن ينكمش إجمالي الناتج المحلي في اليمن بنسبة 1.0% في عام 2024، بعد أن شهد انكماشاً بنسبة 2.0% في 2023 ونمواً متواضعاً بواقع 1.5% في 2022.
وذكر “السامعي”، في ورقة بحثية عرضها في مؤتمر الشباب الأول بتعز، أنه بين عامي 2015 و2023، شهد اليمن انخفاضاً بنسبة 54% في نصيب الفرد من إجمالي الناتج المحلي الحقيقي، مما يترك أغلب اليمنيين في دائرة الفقر. ويؤثر انعدام الأمن الغذائي على نصف السكان.
وبحسب تقرير مركزي عدن حول المؤشرات المالية والنقدية خلال الفترة يناير– يونيو 2023 فإن إجمالي الدين العام الداخلي بلغ 5،2 تريليون ريال، فيما بلغ إجمالي الدين العام الخارجي 7،6 مليار دولار في نفس الفترة، وبلغ إجمالي عجز الحساب الجاري 19،3 من الناتج المحلي الإجمالي.
وتشير التوقعات إلى أن عجز الموازنة العامة للدولة هذا العام سيتجاوز حاجز 65%، ونوه أن الإجراءات التي تمت خلال العامين الماضيين خففت كثيراً من حدة هذا العجز وحاولت جاهدة إيقاف الاقتصاد من الانهيار.
يقول أستاذ الاقتصاد بجامعة تعز أ. د. محمد علي قحطان، لـ“بران برس” إن مركزي عدن “يسعى لمواجهة التضخم والركود إلى إصدار قرارات متتابعة بدأت بإلزام البنوك للدخول في الشبكة الموحدة، وعدم الانصياع لأوامر مركزي صنعاء الخاضعة لسيطرة الحوثيين”.
وتلى ذلك، وفق “قحطان”، قرار نقل الفروع الرئيسية للبنوك من صنعاء إلى عدن خلال مهلة زمنية مدتها شهرين، وعندما مرت فترة الشهرين والبنوك لم تتمكن من الاستجابة لمركزي عدن، تم إصدار قرار منع التعامل مع تلك البنوك، تنهي نشاطها بالرغم من احتلالها مساحة كبيرة من النشاط المصرفي لعموم اليمن.
وقضت القرارات بسحب الطبعة القديمة من الريال اليمني في مناطق سيطرة الجماعة الحوثية، بعد سحب البنك إلى عدن حيثُ كان قد تم تفريغه في صنعاء من كافة الأرصدة التابعة للبنك. وكانت معظم الكتلة النقدية من الطبعات السابقة للحرب منتهية العمر الافتراضي وجزاء كبيرا منها محالة للأتلاف.
وتابع “قحطان” أن قرر البنك المركزي بعدن أن يطبع أوراق نقدية جديدة للريال لمواجهة عجز خزينته لتسديد رواتب وأجور الموظفين والموازنات التشغيلية اللازمة لتفعيل أجهزة الدولة، ولم ينتبه إلى أن ما قام به سيمكن سلطة صنعاء من الاحتفاظ بالأوراق النقدية القديمة بما فيها التالفة واعتبارها النقد الخاص للتبادل في مناطق سيطرتها مع تزامن ذلك بإجراءات منع دخول الطبعة الجديدة لتلك المناطق ومصادرة أي كمية منها، الأمر الذي خلق شكلين للريال اليمني “قديم وجديد”.
وبرأيه، فإن “هذه التطورات رغم أثرها السلبي المباشر في تصعيد الصراع بين سلطتي عدن وصنعاء، والمتمثل في تعميق الانقسام للجهاز المصرفي وقيمة العملة الوطنية، إلا أنها تبشر بتطورات إيجابية من شأنها وضع نهاية لانقسام الجهاز المصرفي والعملة الوطنية، والذهاب نحو وضع نهاية للحرب وتحقيق السلام”.
المعركة الاقتصادية التي يخوضها مركزي عدن مقرونًا بتوحيد العملات المحليّة، وتعزيز دوره في تحرير الريال من “عبث” الجماعة الحوثية، يجد البنك نفسه اليوم مطالبًا باتخاذ إجراءات اقتصادية صارمة لضبط التعاملات المالية والمصرفية دون استمرار تدهور سعر العملة المحلية.
وكان قد أصدر بيانًا في توحيد العملة الوطنية القديمة والجديدة ألف يقابل ألف، وهذا القرار على مشارف انتهاء الوقت المحدد وستتحول العملة القديمة أي طبعة 2016 وما قبلها بعد أسبوع إلى أوراقاً غير قانونية.
ويسعى مركزي عدن من خلال قراراته المستمرّة، وفق الخبراء، لتعزيز سيطرته النقدية لتشمل بذلك المناطق الواقعة تحت سيطرة جماعة الحوثي، حيث أصدر محافظ البنك المركزي اليمني، أحمد المعبقي، في النصف الأول من العام الجاري، عدد من القرارات “الموجعة” لجماعة الحوثي، ويقضي أولها بحصر نشاط الحوالات الخارجية على البنوك وشركات الصرافة المؤهلة والمعتمدة من قبل إدارة البنك في عدن.
وحسب التحليلات الاقتصادية، يستطع مركزي عدن فرض مثل هذه القرارات على كل البنوك والمؤسسات المالية والمصرفية الأجنبيّة بحكم ارتباطه بنظام “السويفت” العالمي كونه يتبع الحكومة اليمنية المعترف بها دوليا.
وبعد ذلك، لحقه قرار نفذ مهلته في يونيو/حزيران الماضي حيثُ كان قد منح البنك المركزي اليمني وقتًا كافيًا لنقل المراكز الرئيسية للبنوك التجارية والإسلامية والمصارف من صنعاء المختطفة إلى العاصمة المؤقتة عدن.
وبعد يوم من انتهاء المهلة المحددة لنقل المراكز الرئيسية إلى عدن (3 يونيو الفائت)، أعلن البنك عن طرح خزانة بمثابة عروض استثمارية للبنوك التي ستقوم بنقل مراكزها الرئيسية من صنعاء إلى عدن، في قيمة تصل إلى 10 مليارات ريال (أي ما نسبته 90 %) حسب خبراء اقتصاديون.
تأتي هذه القرارات تدريجيًا لما سبق في ديسمبر/ كانون أول 2022، أصدر مركزي عدن تعميمًا موجّهًا إلى كافة شركات ومنشآت الصرافة في اليمن بتجميد كافة الحسابات وحظر المعاملات التجارية والمالية مع 12 شركة مدرجة في القوائم السوداء.
من جانبه، قال رئيس مركز الإعلام الاقتصادي، مصطفى نصر، في حديث لـ“بران برس”، أنه عقب تجميع قرارات البنك المركزي انتقل الملف الاقتصادي إلى الأطراف الخارجية بشكل كامل.
وأضاف أنه “لم يعد أمام الأطراف اليمنية سوى انتظار ما ستسفر عنه المفاوضات، ومن الواضح أن الملف الاقتصادي جاء كواحده من الشروط الأساسية لاستكمال المفاوضات وخارطة الطريق التي أعلن بأنها جاهزة".
وتابع: “من غير الواضح هل سيصمد المجلس الرئاسي في الثبات على موقفه من خلال الشروط الثلاثة أم لا، وقال إنه الملف خرج من يد اليمنيين، ويأمل أن يتم توحيد العملة وتوحيد السياسة النقدية وفق معطيات معنية”.
وبشأن التطورات الاقتصادية اليمنية، عقد مجلس القيادة الرئاسي عقد، اجتماعًا طارئًا للرد على رسالة المبعوث الخاص للأمم المتحدة هانس غروندبرغ، يطالب فيها الحكومة والبنك المركزي بـ“تأجيل تنفيذ القرارات الأخيرة إلى آخر أغسطس/آب القادم. داعيا المجلس لإطلاق حوار برعاية الأمم المتحدة لمناقشة التطورات الاقتصادية الأخيرة، وسبل حلها بما يخدم المصلحة العليا للشعب اليمني.
وأكد المجلس “تمسكه بجدول أعمال واضح للمشاركة في أي حوار حول الملف الاقتصادي، بما في ذلك استئناف تصدير النفط، وتوحيد العملة الوطنية، وإلغاء كافة الإجراءات التعسفية بحق القطاع المصرفي، ومجتمع المال والأعمال“.
وشدد على المضي في ردع ما سماها الممارسات التعسفية للحوثيين مع انتهاج أقصى درجات المرونة والانفتاح على مناقشة أي مقترحات من شأنها تعزيز استقلالية القطاع المصرفي والمركز القانوني للدولة في عاصمة البلاد المؤقتة عدن.
منذ انقلاب جماعة الحوثي على الحكومة اليمنية أواخر عام 2014، وسيطرتها على البنك المركزي في صنعاء حولت الاقتصاد اليمني إلى قطاع خاص تستثمر فيه الجماعة في أعمالها التخريبية والتدميرية لليمن، وفق مراقبين.
ومن حينها، تعاني البنوك وشركات الصرافة من تلف العملة المحليّة وشحة في وفرة الدولار ما جعل الجماعة في الأيام الأخيرة تصدر تعميمًا لسعودة التعاملات البنكية بالريال السعودي بدلا عن الدولار في تسوية التحويلات والمدفوعات المالية، ما جعل مركزي عدن يتخذ القرارات ويتابع كل تحركات الصرافات المخالفة للقوانين اليمنية.
وأوضح البنك المركزيفي عدن أنه يسعى لتعزيز دوره الرقابي على السوق النقدي، باعتباره المسؤول عن أي نشاط غير قانوني يتم عبر الحوالات الخارجية الواردة إلى اليمن بما فيها الأنشطة المتعلقة بغسيل الأموال وتمويل الإرهاب.
ولذلك أصدر تعليمات متعلقة بالشبكة الموحدة لمراقبة الحوالات الخارجية حيثُ يقدر إجمالي الحوالات الخارجية إلى نحو (4,5 مليار دولار) سنويًا.
وحتى 11 يوليو/تموز الحالي، أصدر البنك المركزي اليمني، 32 قرارًا بشأن إيقاف تراخيص الصرافات المخالفة، أهم تلك الشركات “بنك الكريمي الإسلامي، بنك التضامن“.
وفي تقدير المحلل الاقتصادي، وفيق صالح، فإن الحكومة اليمنية المعترف بها في سباق اقتصاديّ مع جماعة الحوثي. وبرأيه فإن “الاجراءات الأخيرة التي اتخذها البنك المركزي في عدن لا تتعلق بتحسين قيمة العملة الوطنية ولم تعمل على تحسين الاستقرار المصرفي”.
ويضيف “وفيق صالح” في حديثه لـ“بران برس” أن هذه الاجراءات تأتي في سباق السيطرة مع مليشيا الحوثي على النشاط المالي والمصرفي في عموم الجمهورية اليمنية، تنفيذ أدوات السياسة المالية والنقدية للبنك المركزي.
ويوضح أن هذه الاجراءات “تهدف بالهدم من تأثير مليشيا الحوثي، على القطاع المصرفي والعملة الوطنية، وعلى تلاعبهم في العملة المحليّة في المحافظات المحررة”.
وبرأيه، فإن اجراءات البنك المركزي لتنظيم حركة الحوالات والتدفقات المالية من الخارج إلى البلاد، يقطع الفرصة أمام المضاربين الذين يعملون على ضرب قيمة الريال من خلال الاستغلال النقدي الذي ظلت خارج الإطار الرسمي المصرفي، ويعملون من خلال هذا الأمر عبر طلب مفتعل على النقد الأجنبي ويهدفون لتحقيق الربح والثراء ويكون التأثير على قيمة الريال اليمني.
وحول تحسين الصرف، يقول “وفيق صالح” لـ“بران برس”، إنه “يحتاج إلى حزمة من الاجراءات الشاملة تبدأ من عملية الحصول على كميات كبيرة من النقد الأجنبي وضخه إلى الأسواق، وتحقيق التوازن بين العرض والطلب”.
إضافة إلى “العمل على تشغيل المصادر المستدامة من النقد الأجنبي للبنك المركزي، بدون ديمومة المصادر المستدامة لن يكون هناك استقرار في سعر الصرف”.