يحتاج اليمن إلى خَلَاص ...نعم ؛ ذلك ما يؤكد عليه واقع الحال ، وما يتطلع إليه اليمنيون قاطبة ، وما يصرح به كل من يهمه أمر اليمن .
غير أن الذين يربطون الخلاص بظهور مخلِّص savior لا يبدو عليهم أنهم قد أدركوا أن زمن المخلِّصين حكايةٌ قد طوتها حقيقة أن مشاكل بلداننا تدار بقرارات تتحكم فيها مصالح الأقوياء ، وهؤلاء الأقوياء هم وحدهم من يقرر الخلاص المسموح به ، ويصنع "المخلِّصين" بمقاييس خاصة تتحدد بموجبها مهامهم وأدواتهم وأهدافهم .
وعلى خلاف مع ما استقر عليه الحال اليوم ، هناك، في الماضي القريب من تاريخنا المعاصر ، بعض القادة الذين لعبوا ، دور المخلّص لبلدانهم ولشعوبهم في منطقتنا وبلاد العالم الثالث : من عمر المختار إلى جمال عبد الناصر إلى جيفارا إلى غاندي إلى هوشي منه إلى مانديلا الى سيلفادور إللندي إلى عبد الله السلال إلى قحطان الشعبي ، كانت مهمتهم تتحدد في قضايا بعينها : الخلاص من الاحتلال الأجنبي ، تثبيت دعائم الحكم الوطني ، وحدة المجتمع على قاعدة المواطنة ونبذ العنصرية والطائفية .
ويمكن القول إنه إلى المستوى الذي سُمح فيه بتحقيق ما هو مسموح به من الخلاص من قبل "عالم الأقوياء" ، استطاع كثير من هؤلاء القادة " المخلِّصين" أن يحققوا قدراً متفاوتاً من الأهداف التي رسموها كعناوين رئيسية لعمليات الخلاص التاريخية لبلدانهم . غير أنه بمجرد أن أخذتهم أحلامهم الثورية أبعد من المسموح به ، فقد كان لا بد من كسرهم بأشكال مختلفة من المواجهات والمؤامرات الخارجية والداخلية .
وإذا عرفتَ أن البعض قد تجاوز المسموح به ، بصورة أو بأخرى ، في ذلك الزمن ، فذلك إنما لأن الحرب الباردة وانقسام العالم الى معسكرين ، حتى ثمانينيات القرن الماضي ، قد ساعد في ذلك الى حد كبير ، حتى أن فكرة علاقة الخلاص بالمخلّص ظلت تتحرك في الفكر السياسي قبل أن تتحول إلى قضية شعبية وجدانية بعد ذلك .
منذ ذلك الوقت ، وقد غدا العالم أحادي القطب ، وأكثر تشابكاً من ذي قبل ، تمسك الفكر السياسي المعاصر بالخلاص ، لكنه تخلى عن فكرة المخلِّص التي تحولت ، كما قلنا ، إلى قضية شعبية ، سكنت في الوجدان ، وأصبحت غير قابلة للتحقيق في الواقع .
والحقيقة أنه كلما تعقدت مشاكل الحياة ، وتطلع الناس إلى مخلّص ، كلما كان ذلك تعبيراً عن جمود الحياة السياسية والثقافية ، ومعها تعَطُّل ديناميات الحراك الاجتماعي المنتج لحوافز التغيير والتطور ، وهي العملية التي عادة ما يتم من داخلها توليد فكرة الخلاص بقواعد وأدوات وآليات تعتمد على المجتمع لا على المخلّص بمفهومه القديم ، أي أن المجتمع الذي يبحث عن الخلاص سيكون هو المعني بهذه العملية السياسية والإجتماعية المتعددة والمتجذرة في بيئة تحترم التعدد والتنوع والاختلاف .
في المعركة الوطنية اليوم يبدو التناقض واضح بين الحاجة إلى الخلاص وانتظار ظهور المخلّص ، وهو أمر يعبر عن حقيقة لا يمكن إنكارها وهي أن ديناميكيات الحياة السياسية قد تجمدت عند مستويات متدنية من التفاعل مع الأزمة التي تمر بها البلاد لأسباب لا تتفق مع ما عُرف عن اليمنيين من قدرة على إشعال اللحظة الهامدة بيقظة الخوف من الانهيار ، كما حدث في مراحل تاريخية كثيرة .
صحيح أن هناك رفض شعبي واسع لمشروع الحوثي ، وهو ما يمكن اعتباره بيئة سياسية واجتماعية ملائمة لدعوات الخلاص ، غير أن جوهر المشكلة يكمن في القدرة على تعبئة هذا الرفض وإعادة بنائه كجزء من المعركة .
ولا بد من إدراك حقيقة أن مشكلة اليمن اليوم قد تعقدت أكثر مما كانت عليه في سنواتها الأولى .فالحوثي ، بطبعته الجديدة ، التي أسهم التراخي في تكوينها ، لم يعد تلك المشكلة الصغيرة التي كان يمكن مواجهتها في حينه بأقل جهد حقيقي ؛ الحوثي "المتحور" اليوم مشكلة مركبة لليمن وللإقليم بعد أن اتضح الدور المرسوم له في معادلة الصراع في المنطقة ، والتي أخذت مجاهيلها تتحول إلى معطيات بدءاً من البحر الأحمر وخليج عدن ، مروراً بتحويل اليمن إلى نقطة عبور إلى القرن الافريقي للمشروع الايراني الذي يهدف إلى تطويق المنطقة بتحالفات سياسية وعسكرية وإرهابية ، وإغراق المنطقة بالمخدرات والهجرة البشرية تخفيفاً للضغط على الغرب ، وهي التي سيمتد أثرها لعقود قادمة في صور شتى من عدم الاستقرار والمواجهات . وفوق هذا غدا ، بعد أن أصبحت إيران عنصراً مشاغباً في محور من محوري الصراع الدولي الذي يعيد الأذهان الحرب الباردة ، يحظى من قبل هذا المحور الذي تنتمي إليه ايران بقدر من الاهتمام (كما بات يحدث حالياً في مجلس الأمن عند عرض أي قضية تخص اليمن ) ، على عكس ما كان عليه الحال في السنوات الأولى . كما أن تحالف دعم الشرعية ، الذي قدم الدعم والتضحية الكبيرين للقضية اليمنية في أصعب وأحلك الظروف ، قد تعرض هو الآخر لهزات بينية كبيرة ، وضغوط خارجية ، أثرت على كثير من فعاليته في الآونة الأخيرة ، إضافة إلى أن عوامل كثيرة -لا يتسع المجال لذكرها هنا- أدت إلى مراجعة العلاقات الثنائية لدول التحالف مع النظام الايراني ، منتج وداعم الحوثي ، وصاحب المشروع الذي يعمل الحوثي في إطاره . كل هذه التغيرات أفقدت الدعم الخارجي للشرعية زخمه وشكله القديم ، حيث أخذ الحديث عن السلام يتسارع على نحو لا يتوقف عند المحددات الأساسية التي تجعل منه تصحيحاً لأصل المشكلة التي أدت إلى الحرب ، وهو بُعْدٌ يخالف الموقف القديم للتحالف ، ومعه المجتمع الدولي ، من الانقلاب العسكري الحوثي ، والذي كان يرى في التمدد الايراني وانشاء مليشيات عسكرية في عدد من البلدان العربية مشروعاً يهدد أمن واستقرار هذه المنطقة ، ويقوض فرص الاستقرار .
كل هذه المتغيرات جعلت الخلاص الذي يسعى اليه اليمنيون مطلباً معقداً لا يتوقف به عند الحاجة إلى مخلِّص ، وإنما تعزز صلته بقيادة لم تعد تملك كثيراً من الخيارات إلا أن :
١/ تتوحد ، وتمسك بالحلقة الأساسية في المعركة ، مع عدم إهمال القضايا المرحلة من الماضي ؛
٢/ تستند إلى رؤية عميقة لطبيعة الصراع مع هذا المشروع باعتباره صراع وجودي ، لتصبح دليلها في تخطي أي صعوبات ترميها مشاكل الماضي في طريقها ؛
٣/ تنظم علاقتها بحلفائها وفقاً للقواعد التي تقوم على بناء مصالح مشتركة سواءً في التصدي لهذا المشروع ، أو ما يتعلق بأمن المنطقة ، مع ما يتطلبه ذلك من إصلاح لمضمون ومحتوى هذه العلاقة ؛
٤/تدعمها مؤسسات الدولة وقطاعات المجتمع السياسية والمدنية بمختلف تكويناتها وتوجهاتها وأجنداتها .
كل هذا ، دون إهمال للحاجة التي يتطلع اليها الوجدان الشعبي ، وما أفرزه الواقع السياسي من مسؤوليات وأوضاع وتعقيدات . وقد تتداخل هذه الثنائية في الوعي المجتمعي حينما يتعلق الأمر بمستوى أداء الشخص أو الهيئة ، للمسئوليات الموكلة اليهم بنزاهة واخلاص ، وأحياناً بمبادرات تخصب شروط المعركة . ومن نافلة القول أن المسئولية والاخلاص هنا لا تعني أن ينظر إلى المسئول باعتباره مخلِّصاً ، وإنما باعتباره قائداً قبل أي شيء آخر . فبينما تكون مهمة المخلّص هي توفير شروط إحداث ثورة وتحريك قطاعات المجتمع لإنجاحها ، فإذا لم يستطع فإنه يتحول إلى مسكِّن لآلام الموجوعين ، تكون مهمة القائد هي بناء واستخلاص مقومات النجاح مما توفره الظرف من امكانيات للوصول الى الهدف ، وتحويل أوجاع المجتمع إلى قوة مادية في معركة الخلاص .
إن أوجاع ومعاناة المجتمع في كل التجارب التاريخية هي عرضة لاستقطاب المخلّص من ناحية ، والقائد من ناحية أخرى .. فبينما حولها بعض المخلّصين الى ثورات ونجحوا وتحولوا الى قادة ، وآخرون فشلوا وعملوا على تسكينها وبقوا مجرد مسكنين للوجع ، فإن القائد هو وحده من يستطيع أن يحول هذه الأوجاع الى قوة مادية للتغيير والسير إلى الأمام نحو تحقيق أهداف الخلاص .