المُختَلِف في ثورة 26 سبتمبر أن الوطنيين قبلها كانوا يعارضون الإمام، وانطلاقاً منها صاروا يعارضون الإمامة، النظرية والعقيدة والتاريخ.
هذا ليس فرقاً بسيطاً.
ولكُم أن تتخيلوا بقية الفروق الجديدة الكُبرى التي حدثت في اليمن على التوالي منذ ذلك التاريخ.
إن ما يميز واقعة إعدام الملك لويس السادس عشر في أحداث الثورة الفرنسية، عن حوادث اغتيال وقتل الملوك المعتادة في التاريخ، هو أن من قرروا إعدام لويس السادس عشر أرادوا قتل "المبدأ" وليس فقط شخص الملك.
ومنذ ذلك الحين، صارت "الثورة" في الفكر السياسي كلمة تدل على الحدث الذي يغير مبدأ بمبدأ، لا شخص بشخص.
وأما المبدأ الذي استهدفه الثوار الفرنسيين بإعدام الملك، فهو مبدأ "الحق الإلهي".
هذه الفكرة مستخلصة من كتاب ألبير كامو "الإنسان المتمرد"، وسأقتبس هنا فقرتين منه:
"لقد قُتل مُلوك قبل 21 يناير 1993م بكثير، [اليوم الذي أُعدم فيه ملك فرنسا لويس السادس عشر]، وقَبل قَتل الملوك في القرن التاسع عشر. ولكن رافاياك و داميان -أحدهما قتل الملك هنري الرابع والآخر ضرب لويس الخامس عشر بالموسى وكلاهما حكم عليه بالاعدام- وأقرانهما، كانوا يريدون إصابة شخص الملك، لا المبدأ.
كانوا يتمنون ملكاً آخر، أو لا شيء، ولكنهم لم يكونوا ليتصوروا إمكان بقاء العرش شاغراً على الدوام.
إن 1789م تقع في مفرق الازمنة الحديثة، لأن رجال ذاك الزمان أرادوا، في جملة ما أرادوا، أن يقلبوا مبدأ الحق الإلهي، وأن يدخلوا في التاريخ قوة الانكار والتمرد التي تشكلت في الصراعات الفكرية في القرون الاخيرة، فأضافوا الى القتل التقليدي للطاغية، قتل الإله استناداً الى حجج وبراهين" .
ثم يضيف: "..فلئن لم تكن مَلكيَّة النظام القديم دائماً استبدادية في حكمها، فقد كانت ولا شك استبدادية في مبدئها. كانت ملكية تستند الى الحق الإلهي، أي لا مرجع بعدها فيما يتعلق بشرعيتها. بيد ان هذه الشرعية كثيراً ما أُنكرت، ولا سيما من قبل البرلمانات. ولكن ممارسي هذه الشرعية، كانوا يعتبرونها ويقدمونها كحقيقة بديهية. فلويس الرابع عشر، فيما تعلم، كان حازماً حول هذا المبدأ"، (ألبير كامو، الإنسان المتمرد، ص143 و144).
هذا ما يمكن قوله عن ثورة 26 سبتمبر 1962م، فهي لم تخلع محمد بن أحمد حميد الدين من عرشه فقط، وإنما خلعت معه المبدأ الذي قام عليه، وأطفأت الوَهَج المقدَّس الذي ظل يُشع لقرون من اللقب السياسي الديني: الإمام.
لقد انتهى إلى الأبد الرصيد المعنوي لكلمة "إمامة"، وأصيبت الزيدية السياسية في مقتل على أكثر من صعيد: المبدأ، واللقب، والمكانة، والوظيفة، والرمزية، إلى درجة أن الإماميين الجدد يهابون القول صراحة بأنهم إمامة، فالمفهوم واللقب المُشتق منه كلاهما مشوّه وموصوم.
وفي المقابل ترسخت الجمهورية، الكلمة والمبدأ، بل إنها على الرغم من حداثتها بلغت من الرسوخ إلى درجة أن أعداءها لا يزالون ضعفاء معنوياً أمامها رغم قدرتهم المادية عليها.
لهذا يتجنب الإماميون الحوثيون السجال النظري والأخلاقي مع "الجمهورية"، إنهم يهدمونها عملياً ويتحاشون الصدام معها نظرياً بشكل صريح.
ينصرف الهجوم في خطابهم، لا على "المبدأ الجمهوري"، بل على "التجربة الجمهورية" التي دأبتْ التيارات اليسارية والقومية، بل والإسلامية أحياناً، على ترصُّدها وإظهارها تجربة زائفة ومنافية للكمال.
أي أن الحوثيين وجدوا أفضل العون من النقد والتنديد الذي أثير ضد الجمهورية كتطبيق وكتجربة تاريخية منذ 1962م إلى لحظة سيطرتهم على صنعاء في 21 سبتمبر 2014م.
المفارقة أن التيارات الحزبية التي أنتجت ركام من النقد، كانت تتمتع بقدرة تنديدية صاخبة ولم يكن يهمها من يجني في الواقع ثمار الصخب.
بفضل ذلك النقد أصبَحتْ مهمَّة الإماميين إزاء الجمهورية سهلة. فلم يعودوا مضطرين لإقحام مشروع الإمامة في تنافس سجالي مع المبدأ الجمهوري بل مع التطبيقات "الناقصة" و"الزائفة" لهذا المبدأ في اليمن، مستدلين على ذلك بما يقوله بعض الجمهوريين!
قد يقف البعض معترضاً بهذا السؤال:
هل المسؤولية تقع على النُقَّاد أم على الحُكَّام الجمهوريين لأنهم لم يكونوا جمهوريين كما يجب؟
والرد سيكون بسؤال: ما معنى أن تكون جمهورياً حقيقياً في بلد كاليمن؟
وبالنظر إلى كل ما نعلمه عن اليمن، نسأل أيضاً: ما هو أقصى مدى كان يمكن لنا بلوغه في تَمثُّل الفكرة الجمهورية على النحو السليم في واقع غريب عنها ويحتاج توطينها فيه إلى زمن طويل؟
ثم من يقرِّر المسافة المقبولة بين "الوضع الجمهوري المُمكِن" و"الوضع الجمهوري السليم"؟
المؤكد أن عالَم النُقَّاد كان معزولاً عن عالَم الفعل وعالَم الوقائع. وهذا هو أُسّ البلاء.
وكان مؤدَّى هذا كله، بالنسبة للحوثيين، هو أن الجمهورية بما أنها "أكذوبة" في نظر نقَّادها الجمهوريون، فالمجال إذن لا بد سيسمح لأكذوبة جديدة يتم فيها بعث الإمامة في إهاب جمهوري.
غير أن أكذوبة الحوثيين سافرة بوقاحة.
ففي الوقت الذي يقولون فيه إنهم جمهوريون، تنكشف هوة سحيقة بين المقال والحال:
ذلك أن نبض الحوثيين الخاص لا يشتد، وحماسهم لا يتفجَّر بقوة متأجِّجة، إلّا في احتفالاتهم بالمناسبات والرموز المعادية في الصميم للمبدأ الجمهوري، والتي تربطهم في الذاكرة الشعبية بتاريخ الإمامة الزيدية وبـ طقوس التشيُّع ومظاهرهِ المعروفة:
الغدير، عاشوراء، ذكرى المولد النبوي (بعد صبغها بصبغة سياسية)، ذكرى "استشهاد الإمام زيد"، مولد فاطمة بنت النبي، استشهاد علي بن أبي طالب..الخ!
وأما الشعار الذي يصدحون به باطمئنان ديني رهيب، ومن صميم لحمهم وعظامهم، فهو ذلك الشعار الذي صدحت بعباراته الأولى حناجر المحتجين الشيعة في أحداث الثورة الإسلامية الإيرانية بقيادة آية الله الخميني عام 1979م.
بين الحوثيين وبين أعلام وشعارات الجمهورية اليمنية غربة ليس من الصعب إدراكها وفهمها.
علاوة على ذلك، فالدفق العاطفي الطافح في ملصقاتهم ومقالاتهم وأهازيجهم الحربية، لا يصعد من نبع العاطفة الوطنية اليمنية الجمهورية التي تعلو فوق الانقسامات المذهبية، وإنما هو أقرب إلى السائل الداكن الذي يفرزه الوجدان الديني "الشيعي" من منابع تاريخية موغلة في القدم تدور حول حوادث ورجال وأقدار لا تنتمي بأي حال إلى مجرى التاريخ الوطني اليمني.
فبأي معنى هم جمهوريون؟