هي (الجمهورية) التي معها نلتقي، ودونها نفترق، خطنا الأحمر الذي يستحيل تجاوزه، ولا يمكن التعدِّي عليه تحت أي مسمًى أو شعار.
كانت مأرب هي شهقة الميلاد الأولى في تاريخنا ..جِنان الدنيا الأولى عن ذات يمينٍ وشمال.. أول الممالك وأجمل الملكات، أول شورى ودستور .. أرض البطولات .. البندقية الأولى، والرصاصة الأولى ومعنى التضحية والاستشهاد.. على أسوارها تحطمت أطماع الغزاة وأحلام الهَمج من كل لونٍ وجنس.
أبعد من هذا ، مأرب بالنسبة لكل يمنيٍ عربيٍ قح، هي المبتدأ في تاريخنا والخبر .. أرض الرجال المدافعين عن خط كرامتنا الأول والأخير ، والنساء الولاَّدات للأساطير ، ومأرب هي أرض المروءات التي لا تنافسها على وجه الأرض أرضٌ ، ومهد الشهامات التي لا تدانيها شهامة.
يختلف أهلها على حبها ويقتتلون من أجلها ، لكنهم يحتشدون أمام أدنى خطرٍ خارجي عليها كقلبٍ واحدٍ، تلتئم أحشاؤه مثل عضَلةٍ صلبةٍ واحدة..
تلك هي مأرب التي يكاد لا يعرفها (حق المعرفة) أحدٌ مثل أهلها، أو عاشقٍ سار في دروب تاريخها، وقرأ كبرياءها .. كيف تقوم قياماتها، وينفجر عنفوان الرجال من تحت رمالها حين يعتريها في غضبٍ لا مثيل له غضَب.
هنا تكمن رمزية (مطارح مأرب) ميادين النخوة، حيث الشِّيم والقيم، وحيث يشتعل الدم في العروق، نداءٌ حارٌ للدفاع عن كرامة الأرض وشرف العرض.
مثلما كانت أبواب مأرب مُشرعةٌ في وجه كل لائذٍ بها أو مستجير، أصبحت مطارحها مفتوحةٌ أمام صاحب حقٍ مظلومٍ ليس له ظهيرٌ أو نصير.
في الحرب الغاشمة الأخيرة، كما في كل حروب الدفاع عن النفس، منذ قيام ثورة 26 سبتمبر المباركة 1962، كانت مأرب هي ساحة الوغى الأولى.. ميدان الصمود وبذل الغالي من الأرواح والنفيس من متاع الدنيا.
من غَير مطارح مأرب انتخى، واستبق الجميع في زمن التِّيه والضياع، ووقف على خطوط النار بما تيسَّر من عتادٍ وزاد؟
ومن غَير مأرب ومطارحها مَن مدَّ اليد، وشرع أحضانه لمئات الآلاف من المستضعفين الفارين من سعير حربِ الإخوة الأعداء ، ومَن غير مطارح مأرب امتزج على أرضها الدم والدموع وتقاسم اليمنيون شرف الرجولة، وحافظوا تحت هجير شموسها على حق البقاء الكريم على تراب الأجداد الذين ابتكروا أول اللغات وأنبل الحضارات، واستحقوا أن يكونوا رواد التجربة الإنسانية بطول وعرض الزمن؟
كفى ظلماً لمأرب ومطارحها، كفى محاولات ظلمٍ واستهدافٍ، وشيطنة ورقصاً على إيقاعات الطبول البعيدة، الشاذة، والنشاز.
عودوا لمأرب ومطارحها، واستعيدوا بمعناهما أنفسكم، إنها مأرب التي غسلت العار الشنار برغم كل الخيانات والتآمر والخذلان .. مأرب جدارنا العالي العريض الذي يستند إليه كل ظهرٍ منكسر.
نصيحتي، ختامًا، لكل من ضل سواء السبيل في متاهات الفتنة وغيبوبة العقل وأطماع الفساد، أن يعيد قراءة الدرس الأول والأخير، درس مأرب الذي سطَّرته عبر التاريخ في معنى الذات والهوية..