شهدت مارب تطورًا طبيعيًا منذ الألف الرابع قبل الميلاد، ولم يجرؤ أحد على مجرد التفكير في الذهاب إليها مضمراً الشر وهي في أوج قوتها. ومع ذلك، طمع فيها الغزاة في مراحل متأخرة. ففي سنة 24 ق.م، شهدت مارب حملة رومانية هدفت للسيطرة عليها، لكنها لم تستطع دخولها، فقد تجمعت الجيوش الحامية لمارب في الجوف لتواجه الرومان القادمين عبر نجران، وسقط الرومان على أسوار مارب الحصينة. وهكذا سجل لنا التاريخ هذه الواقعة ليكشف لنا أن مارب كانت وما زالت عصية على الغزاة، وما قام به أبناء مارب في 18 سبتمبر 2014 بتشكيل قواهم فيما سمي بـ "المطارح" إلا استلهامًا من تاريخ هذه المدينة العصية على الغزاة.
إن تشكيل المطارح في هذا التوقيت، 18 سبتمبر 2014، كان استباقًا جمهوريًا لما أتى بعده من إعلان انقلاب على الجمهورية اليمنية في 21 سبتمبر من نفس العام. هذا التوقيت لم يكن مصادفة إطلاقًا، ويعد خطوة متقدمة واستباقًا لإعلان الانقلاب المشؤوم بأيام معدودة. كما أنه يأتي في سبتمبر، وسبتمبر له عهد في رقاب اليمنيين، ولديه مكانة خاصة في قلوبهم، ففيه تخلص الشعب اليمني من الإمامة.
تمثل مارب معقلًا لتاريخ اليمن العظيم، ومنجمًا للعنفوان اليمني الأصيل، لذا تنبهت للخطر المحدق بالجمهورية فجمعت أبناءها واستنفرت أهلها إلى المطارح. والمطارح كمفهوم هو ما يمكننا من أن نطلق عليه النفير العام. كيف اتخذ أهل مأرب هذه الخطوة بشكل جماعي؟ قبائل، وسلطة، وأحزاب، ومكونات اجتماعية؟
إنها المقاومة التي أوقفت آمال الانقلابيين وأوهنت عزيمتهم. صحيح أنها قد تشكلت مقاومة في تعز وعدن وتداعت مدن أخرى للمقاومة في نفس الفترة، لكن مارب كانت سباقة في اتخاذ قرار النفير العام (المطارح) بشكل جماعي شوروي، لم يكن القرار صادرًا عن جهة واحدة أو مجموعة محددة، بل كان قرارًا جماعيًا بهدف واضح: الدفاع عن الدولة والجمهورية، وليس الدفاع عن مارب كمحافظة فقط.
الجذور الحضارية لهذا الموقف الكبير تعود بنا إلى التاريخ القديم، حيث نشأ مفهوم "الشعب" في الحضارة اليمنية القديمة. قد يعتقد البعض أن هذا المفهوم حديث، لكن النقوش اليمنية تثبت أنه قديم. وقد فُسر مفهوم "شعب" في القرآن الكريم (وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ) بطرق مختلفة؛ البعض قال إن الشعوب هي الأنساب، والبعض الآخر قال إن الشعوب هي بطون القبائل، مع أن هناك فرقًا بين المفردتين (الشعب والقبيلة)، فكلمة الشعب تشير إلى التجمعات الحضرية في اليمن كما يقول الدكتور إبراهيم الصلوي. ويشير الأستاذ مطهر بن علي الإيراني في كتاب نقوش مسندية، إلى أن اليمن عبر تاريخه "كان يتألف من وحدات اجتماعية تربطها المصالح الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وليس روابط الدم والنسب، أو النظام الأبوي المعروف في مناطق أخرى، ونقوش المسند تطلق على هذه الوحدات شعب".
المطارح هنا ليست مجرد تجمع عشائري قبلي بالمعنى البسيط، لم تمثل نكفًا قبليًا، فلم تكن المشكلة بهذه البساطة، بل كان نفيرًا عامًا لكل مكونات المجتمع اليمني في مارب. وتشير المطارح في معناها العام إلى أن الشعب اليمني في مارب قد تداعى للوقوف أمام المخاطر المهددة للجمهورية اليمنية. هذه المطارح إذًا ممثلة للشعب اليمني بكل ما تحمله الكلمة من معنى، فهي تجمع بين دلالتين؛ دلالة حضارية يمنية أصيلة، ودلالة جمهورية حديثة.
في الماضي، مهد الصراع الديني الطائفي في اليمن قبل الإسلام بين اليهود والنصارى اليمنيين إلى تمكين النفوذ الخارجي من وجود مدخل له للتواجد في اليمن. فقد تحالف اليهود مع الدولة الفارسية، وتحالف النصارى مع الدولة الرومانية، لتبدأ مرحلة صراع دولية في اليمن. واليمن في تلك الفترة كانت تعيش مرحلة سقوط آخر دولة يمنية حكمتها، وهي الدولة الحميرية. وبسقوط الدولة الحميرية في اليمن ساءت أحوال اليمنيين، وتحولوا مع الأسف من شعوب يمنية حضارية موحدة في دولة فيدرالية تضم كل الشعوب في شعب واحد، وكل الدول والممالك في دولة ومملكة واحدة، فتحولوا من شعب واحد ينتمي لدولة مركزية واحدة إلى قبل وقبائل توزعها؛ العشائريون، والقبليون، والمشايخ، والمقاول، وأصبحت الدولة اليمنية الواحدة مجموعة من المشاريع والكنتونات الصغيرة المتنافسة. وبعد ثمانية عقود ونيف جاءت البعثة النبوية على صاحبها أتم الصلاة والسلام، وخلال فترة وجيزة أعيد تصحيح معتقدات الناس بالإله الواحد، وشرع الرسول بجعل الآلهة إلهًا واحدًا لا شريك له، وختمت بشريعته الشرائع السماوية، وخرج الناس من ضلالة التفرق إلى التوحد، من المعتقد إلى كافة شؤون الحياة، فبعد ذل التفرق والتشرذم أعز الله الناس بالإسلام الذي وحدهم من جديد.
في العهود التي تلت البعثة النبوية لم يكن مفهوم الشعب مستخدمًا لا في اليمن ولا في غيرها، وقد استبدل بمفهوم الأمة، لكن مع الثورة اليمنية 26 سبتمبر و14 أكتوبر، عاد مفهوم "الشعب" إلى الساحة اليمنية. لقد كان للثورة اليمنية الفضل في استلهام المفهوم من تاريخنا اليمني، كما أن مفهوم الشعب في هذا الوقت كان منتشرًا في بلدان مختلفة.
مع عودة الإمامة بنسختها الحوثية وبمفهومها المتعارف عليه "الهاشمية السياسية" في 21 سبتمبر 2014 لم يكن أمام الشعب اليمني إلا أن يعلن مقاومته لهذا المشروع الماضوي الكهنوتي السلالي، فكانت مارب له بالمرصاد، والبداية كانت من المطارح، من النفير العام لإنقاذ الجمهورية اليمنية، من هجمة الكهنوت الإمامي المتدثر بالأحقاد، والمستعين بكل من لديه عداء لليمن؛ كشعب، ودولة، وهوية حضارية، وتاريخ يستلهم منه اليمنيون ما يجب عليهم فعله لمواجهة الأخطار والكوارث.
المطارح الماربية كانت الملاذ الأهم لليمنيين ليعلنوا المقاومة قبل التدخلات الإقليمية والدولية، فقد مثلت المطارح روح الانتماء الحقيقي للشعب اليمني، لذا توافد إليها كل من يحملون قيم الجمهورية والثورة اليمنية والديمقراطية والمواطنة المتساوية، وكل من يدركون خطر عودة الإمامة. فالإمامة عادت للأسف على ظهور "العكفة" من الذين استعصى عليهم فهم هويتهم وتاريخهم وانتمائهم، فراحوا يتحالفون لأجل إسقاط جمهوريتهم بأيديهم. لكن المطارح قالت بكل عنفوان "لا" لهم وللكهنة الجدد ولمن وقفوا خلفهم.