عندما وصلت إلى مأرب في عام 2014م، كمراسل ومنتج لقناة الجزيرة لتغطية حدث مهم وهو مطارح مارب، جئتها مع فريقي بعد أن قطعنا طرقًا وعرة تلتها صحاري الجوف باتجاه مأرب، خوفا من نقاط التفتيش التي يسيطر عليها الحوثيون، وأصدقكم القول، لم يكن يومها قلقي فقط من جماعة الحوثي؛ بل كانت هناك مخاوف أمنية زادتها الصورة النمطية التي رسخها الإعلام الحكومي اليمني عن مأرب، للأسف كنت أحمل صورة نمطية، صورة رسخها نظام الرئيس السابق علي عبدالله صالح على مدى سنوات طويلة. وفقًا لهذه الصورة، كانت مأرب تُعتبر منطقة خارجة عن سيطرة الدولة، مليئة بالصراعات القبلية والمسلحين، ومسرحًا لتحركات الإرهابيين في صحرائها.
لكنني وفريقي فوجئنا بأن الامر كان إرهابًا إعلاميًا مورس طوال عقود ضد مأرب! ..اكتشفنا مدى الظلم والتهميش الذي تعرضت له هذه المحافظة!
مأرب: وعي عميق بالدولة والقانون
تحت حكم النظام السابق، تم تهميش مأرب بشكل متعمد، وتم تصويرها كمكان خطر وغير مستقر؛ بل كان النظام يسمح بحرية تحرك بعض العناصر الإرهابية في صحراء مأرب، بهدف ترسيخ الصورة النمطية السلبية عنها، وإبقائها معزولة عن بقية اليمن. ولكن الحقيقة كانت مغايرة تمامًا. وجدت في مأرب مجتمعًا واعيًا بأهمية وجود الدولة والقانون، مجتمعًا يتوق إلى العدالة والتنمية، ويرفض الفوضى التي حاول النظام تصديرها.
ثورة 11 فبراير: مأرب في طليعة الحراك السلمي
عندما اندلعت ثورة 11 فبراير 2011م، كان أبناء مأرب من أوائل من انضموا إلى الحراك الشعبي السلمي الذي طالب بإسقاط نظام صالح. رغم أن كل مواطن في مأرب تقريبًا يمتلك سلاحًا، لم يلجؤوا إلى استخدامه في المظاهرات؛ بل فضلوا التعبير عن تطلعاتهم بشكل سلمي، مما يعكس نضجهم السياسي ووعيهم الاجتماعي. كانوا يتطلعون إلى دولة مدنية حقيقية تحقق لهم العدالة والتنمية التي طالما حُرموا منها.
تأسيس المطارح: بداية المقاومة وتنظيم الصفوف
بعد سقوط صنعاء في أيدي ميليشيات الحوثي المدعومة من إيران، دخلت البلاد مرحلة خطيرة من الفوضى والانهيار. بينما استسلمت العديد من المحافظات بسرعة تحت ضغط الحوثيين. كانت مأرب حالة استثنائية، ففي 18 سبتمبر 2014، شهدت المحافظة لحظة حاسمة في تاريخها، حيث تداعت قبائل مأرب، بقيادة مشائخ قبائل عبيدة ومراد، وجهم وغيرها؛ لإنشاء "المطارح"، وهي مخيمات كبيرة أقامها أبناء القبائل كخط دفاع أول ضد الحوثيين.
تأسست المطارح على أيدي زعماء وقادة قبائل مأرب البارزين مثل الشيخ سلطان العرادة، والشيخ عبدالواحد القبلي نمران شيخ مشائخ مراد، والشيخ علي القبلي نمران، والشيخ محمد بن ناجي بن غريب، والشيخ مبخوت بن علي العرادة، والشيخ صالح بن علي بن غريب. وكان هؤلاء القادة جزءًا من التحالف القبلي الذي أدرك خطورة الموقف وسعى لتوحيد الجهود للدفاع عن المحافظة وعن اليمن ككل.
المطارح: نواة الجيش الوطني
لم تكن المطارح مجرد مخيمات دفاعية بل تطورت لتصبح نواة للجيش الوطني. من خلال هذه المطارح، تم تنظيم وتدريب وتجهيز المقاتلين الذين شكلوا فيما بعد العمود الفقري للجيش الوطني اليمني. لعبت المطارح دورًا حيويًا في إعادة ترتيب صفوف الجيش وتقويته، وأصبحت بمثابة الجيش الاحتياطي الذي يكمل متطلبات الجيش في المعارك.
كما استقبلت هذه المطارح كل المنضمين للجيش سواء من عسكريين أو مدنيين فضلوا المقاومة على الاستسلام للميليشيا.
تحولت مأرب بفضل المطارح إلى أكبر رافد للجيش الوطني. ومن هذه المطارح، انطلقت المقاومة التي استطاعت ليس فقط صد الحوثيين؛ بل واستعادة زمام المبادرة في عدة جبهات. لقد قدمت مأرب قادة ومقاتلين استشهدوا في ساحات الشرف، مثل القائد العسكري اللواء عبد الرب الشدادي، والعميد أحمد عبدالله القردعي، والعميد ناصر علي مبخوت الزايدي، والعميد أحمد علي النقيب، وغيرهم الكثير ممن كانوا في مقدمة الصفوف.
ومن الإعلاميين عبدالكريم مثنى وعبدالله القادري وغيرهم الكثير..
مأرب: الحصن الحصين لليمن
من خلال المطارح، جسدت مأرب نموذجًا للوحدة الوطنية والتضامن. لم تكن المطارح مجرد تجمعات قبلية، بل كانت تعبيرًا عن وعي سياسي واجتماعي عميق بأهمية وجود دولة مستقرة وقوية. بفضل تضحيات أبناء مأرب ودورهم المحوري في تنظيم المقاومة، أصبحت مأرب حصنًا منيعًا ضد محاولات الميليشيات لتقويض الدولة.
اليوم، ونحن نحتفل بذكرى إنشاء المطارح في 18 سبتمبر، نتذكر بفخر الدور البطولي الذي لعبته مأرب في الحفاظ على الدولة ومنع انهيارها. لقد كانت المطارح رمزًا للوحدة والصلابة، وقدمت نموذجًا لما يجب أن تكون عليه الدولة: كيان يحمي حقوق مواطنيه، ويوفر لهم الأمان والعدالة. بفضل المطارح وأبناء مأرب، تم إيقاف زحف الميليشيات، وتم الحفاظ على الدولة، واستعادة الأمل في بناء يمن جديد يتسع للجميع.