في حياة الأمم والشعوب الحية هناك منعطفات تاريخية تُحفر في ذاكرة الوعي الجمعي لتك الأمم والشعوب، يتم تخليدها وتخليد أبطالها في وجدان الأجيال المتعاقبة، كون تلك الأحداث مثلت حدًا فاصلًا بين الاستمرار في المضي نحن الهوية أو إيقاف جموح من يريدون إعادة عجلة التاريخ إلى زمن التخلف والعبودية والانحطاط في كافة مناحي الحياة.
على حين غلفة من الزمن والبشر استغلت جماعة الحوثي الإرهابية، انشغال اليمنيين بخلافاتهم السياسية وتصفية الحسابات الضيقة فيما بينهم، ونتيجة ضعف الوعي بخطر مشروع الإمامة الممتد لأكثر من اثني عشر قرن من الزمان، وتغييب التوعية بخطر هذا المشروع الإجرامي المتخلف في المناهج الدراسية والإعلام. اقتحمت جماعة الحوثي المدن والقرى اليمنية بقوة السلاح، بداية من دماج وانتهاءً بصنعاء تحت شعارات كاذبة صدقها بعض السذج، لتستولي على مقدرات الدولة اليمنية، بما فيها العسكرية والأمنية والمدنية، وتدوس على كل الثوابت والتوافقات الوطنية، آخرها مخرجات الحوار الوطني الذي كان أحد شعاراتها قبل دخول صنعاء وطالبت بتنفيذه.
دخل اليمنيون في حالة من الذهول والصدمة، فقد عادت الإمامة بوجهها القبيح والمسمى الجديد "الحوثي"، وأسقط في يد الجميع، وأخذ اليمنيون يندبون حظهم العاثر، ويبحثون عن بارقة أمل أو بصيص نور للوقوف في وجه هذه الجائحة التي بعودتها بلا شك ستعود كل الويلات التي عانوا منها طيلة فترات استقواء مشاريع الإمامة بمسمياتها المختلفة ومشروعها الواحد "الحق الإلهي في الحكم"، فقد تحولت أحلام اليمنيين بعد ثورة فبراير إلى كوابيس، وأخذت جماعة الحوثي تغزو المحافظات واحدة تلو الأخرى تحت يافطات كثيرة لا تعدم مليشيات الحوثي أن تسوقها للداخل والخارج.
كانت بارقة الأمل للإرادة الشعبية التي جردت من السلاح، تتوجه صوب محافظة مأرب، التي أعلن أبناؤها منذ اليوم رفضهم لهذا الانقلاب الغاشم على مقدرات الدولة اليمنية ودستورها وقوانينها ومخرجات الحوار الوطني، الذي أوشك أن يخرج اليمن من عنق الزجاجة نحو آفاق رحبة، وكان يوم الـ18 من سبتمبر من العام 2015م ميلاد مطارح مأرب، وكان لسان حالهم يصدح بأشعار شاعر اليمني الكبير عبدالله البردوني:
أصوتي سوى صوتي؟ أجرب صيحةً
هنا مولدي يا فجر، قبل خمائلي
سقوني دمي، كي أرتوي دائماً بلا
حنينٍ، فنادتني إليها مناهلي
ترمدت كي أغلي وأندى، وها أنا
أتيت، وفي وجهي شظايا مراحلي
أما كنت ميتاً؟ إنما كنت أغتلي
وأعلو على قتلي، لأجتث قاتلي
لم تكن في حينه موازين القوى متكافئة ، بين قبائل تمتلك سلاحها الشخصي، وبين جماعة سطت على مقدرات الدولة ولديها خلاياها النائمة في مؤسسات الدولة، خصوصاً العسكرية منها، صحت لتؤازرها وتسلمها المعسكرات ومخازن الأسلحة، بما فيها الاستراتيجية والطيران الحربي، والتي تم تكدسيها لسنوات طويلة في طوق صنعاء، فالمعادلة تكاد تكون صفرية في الحسابات العسكرية، في ذات الوقت صدمت قوى الانقلاب أن محافظة مأرب حسمت مواقفها بهذه الصرامة، وصدمت تلك القوى بحجم التآزر القبلي والسياسي والاجتماعي رغم شحت الإمكانيات، لكن العامل الأقوى كان صدق النوايا ونبل المقصد والإرادة الرسمية والمحلية والشعبية العارمة لإجهاض هذا الانقلاب.
تقاطر المأربيون من كل حدب وصوب إلى تخوم محافظتهم للوقوف في وجه جحافل الحوثي وقطعانه المؤدلجة التي لا تتقن لا القتل وزراعة السهل والجبل بالألغام وكل أسباب الموت والخراب. تم تأسيس مطارح مأرب التاريخية كردة فعل طبيعية على من يريدون فرض مشروعهم بقوة السلاح، وامتدت تلك المطارح من منطقة نخلا غرباً مرورًا بصرواح والوشحا وقانية والعبدية جنوبًا على امتداد أكثر من 400 كيلومتر؛ تنوعت تضاريسها بين الصحراء والوديان والجبال الشاقة ، في عزيمة لا تلين وإرادة تكسر الحديد، وكانت بمثابة كرة الثلج التي تتدحرج كل ساعة لينظم إليها كل رجالات اليمن الصادقين والوطنيين من أبنائه من مختلف محافظات الجمهورية اليمنية بأسلحتهم وأقلامهم ونواياهم الصادقة، لتشكل مزيدًا من التلاحم والصمود في وجه الغزاة وجحافلهم، لقد تحولت تلك الكرة إلى صخرة صلبة تتحطم عليها مشاريع الإمامة المتخلفة.
وفي لحظة فارقة تجسدت فيها قيم النخوة العربية أعلنت دول التحالف العربي قيام عاصفة الحزم نصرة لإخوانهم في مطارح مأرب وباقي المحافظات واستجابة لمطالب القيادة الشرعية، ولمنع ابتلاع اليمن من قبل المشروع الإيراني وأداته المتمثلة في الانقلاب الحوثي، وبمرور الايام تحول الفعل المدافع إلى مقاوم ثم مهاجم ليتم تحرير مناطق عدة من ربقة الانقلاب.
ونحن نحتفل بهذه الذكرى الخالدة في وجدان اليمنيين والأشقاء العرب يجب أن نستحضر ونستلهم الكثير من المعاني، خصوصًا بعد مرور عشر سنوات على تأسيس المطارح، وانطلاق عاصفة الحزم، والتي دارت فيها معارك ضارية سجلت فيها بطولات ستظل مضرب الأمثال، وضحى فيها اليمنيون وإخوانهم العرب بخيرة الرجال، ناهيك عما لحق باليمن من أضرار اقتصادية ومادية واجتماعية، وهي أن مواجهة الأخطار وتحقيق الغايات العليا لا يتم إلا من خلال توحيد الرأي والكلمة والموقف والفعل.
إن التضحيات مهما كان حجمها بشريًا أو ماديًا أو معنويًا ، تهون أمام الحفاظ على حرية وكرامة شعبنا وهويته الوطنية والمكتسبات التي مضت في سبيل الحفاظ عليها وتطويرها، وهي أقل ما يمكن تقديمه للوفاء لقوافل الشهداء والجرحى من كل جغرافيا اليمن؛ بل ولأمتنا العربية، كما يجب تعزيز اللحمة الوطنية لمواجهة الانقلاب واستعادة مؤسسات الدولة مهما طال الزمن ومهما حدث من انتكاسات، فقد نخسر بعض المعارك والمناطق لكننا لم ولن نخسر الحرب بعون الله.
ويجب أن يعيَ الجميع أن الأمة اليمنية ولادة بخيرة الرجال الذين أفرزتهم مرحلة الحرب سواء من مضوا إلى الله في قافلة رجالات النضال الوطني أو الذين ما زالوا على العهد رغم المعاناة، كما أنه يجب حراسة التضحيات التي لا نشك أنها ستثمر وتحقق الغايات العليا لشعبنا الذي سيهزم بعون الله مشاريع التخلف والموت في كل مراحل التاريخ اليمني التي شهدت بأن الجولة الأخيرة في كل صراع لليمنيين.
وبهذه المناسبة نهيب بالقيادة السياسية رعاية أسر الشهداء والجرحى بما يليق بتضحياتهم من خلال إنشاء هيئة تحل كافة مشاكلهم وتضعهم في المكانة الاجتماعية والسياسية، كما يجب أن يعمل الجميل على تعزيز حضور الدولة ومزيد من التفعيل للمؤسسات القضائية والرقابية والعمل على إصلاح كافة الاختلالات وتفعيل دور النظام القانون .
خامتًا: يجب أن نكون جميعًا على ثقة أن الجولة الأخيرة بإذن الله في هذه الحرب لإرادة اليمنيين التي هي من إرادة الله، وأن مشاريع الحياة والحرية والكرامة والمواطنة المتساوية هي القابلة للحياة، وما سواها سيدفنها شعبنا سلمًا أو حربًا.