حين كانت المناكفات والأحقاد قد لوثت صنعاء وأصابت ساحة السياسة هناك بالتعفن، كانت صحاري وجبال مأرب المفتوحة تضج حيوية وتمنح ساكنيها قدرة على التفكير بعيدًا عن كل الملوثات.
وحين انطلت الخدعة على الأطراف السياسية؛ أن الطوفان القادم جاء ليقدم لها خدمة الانتقام من خصومها فقط، وحين صرح وزير الدفاع يومها بأن الجيش لن يتدخل في الصراع بين الأطراف، أدركت قبائل مأرب أن بيعة قذرة قد تمت بحق البلاد وعاصمتها وبحق الدولة والنظام الجمهوري.
ذلك الإدراك المبكر ترجم إلى خطوات عملية في سبتمبر 2014، في التداعي القبلي لتدارس الوضع والاتفاق على إنشاء مطارح قبلية تكون بمثابة جبهة صد وحماية لما بعد صنعاء.
لم يكن ذلك الموقف بمقاييس تلك اللحظة عملًا سهلًا، واتخاذ القرار لم يكن ليتم لولا تمتع قبائل مأرب ووجهائها وقادتها من مختلف التيارات السياسية بحس سياسي عال وإدراك لطبيعة اللحظة وحجم المؤامرة المحلية والإقليمية والدولية التي أوصلت الحوثيين إلى صنعاء.
كان الخطر لحظتها في ذروته والتبعات كبيرة، لكنهم كانوا يدركون أن تبعات التخلي والتسليم أكبر من تلك التي يمكن أن يدفعوها في حال اتخاذ قرار المواجهة، وبالتالي لملموا شتاتهم وأجمعوا أمرهم على رفض تكرار ما حدث في صنعاء.
تجاوزت قبائل مأرب صراعاتها والثارات التي كانت تغذيها باستمرار السلطات الحاكمة لصنعاء منذ عقود، وكانت النتيجة أكبر حتى مما تخيلت مأرب ذاتها.
وبقدر ما كانت لحظة وضع الوتد الأول لمطارح نخلا والسحيل خطوة قبلية لحماية مأرب وما حولها من هجمة محتملة لمليشيا الحوثي، فقد كانت تلك الخطوة تأسيسًا للوتد الأخير الذي استندت عليه الجمهورية بعد أن تداعت كل أوتادها، وما كان ذلك الوتد المضروب في الصحاري المنسية ليشكل ذلك الأثر لولا عظمة المبادرة وصوابية التقدير في لحظة بالغة الحساسية من تاريخ اليمن.
اتخذت مأرب بكل مكوناتها القبلية والسياسية موقفاً كبيرًا ودفعت ثمنه غاليًا لكن ريعه عاد لصالح اليمن كلها وشكل مستقبلًا نقطة قوة كبيرة لصالح الجبهة الرافضة لسيطرة مليشيا الحوثي.
فحين نجت مأرب في لحظة الانهيار الكبير، بفضل الموقف الجمهوري الأصيل لأبنائها والمتحرر من أثر الخيانات وتبعات المكايدات والرغبة في الانتقام التي كانت المحرك الأساسي للنخب الحاكمة والمتحكمة في صنعاء، كان لها أن تصبح الحاضنة للفعل المقاوم ونقطة الانطلاق التي منحت المعركة شكلً ومسارًا آخر.
وبالتالي فإن هذه اللحظة الفاصلة؛ وأقصد لحظة تأسيس مطارح نخلا والسحيل، تعد هي لحظة تأسيس الفعل المقاوم في تاريخ المعركة الحالية لليمنيين مع الإمامة، ومهما كانت بسيطة مقارنة بحجم المعركة التي دارت على امتداد الخارطة اليمنية، إلا أن عظمتها من اللحظة التي انطلقت منها ومن الطقس المسيطر على تلك اللحظة، والذي سيطر عليه التخلي والتسليم والانهيار، بينما ضرب البدوي وتد خيمته على أطراف صحراء مأرب وأقسم أنه "با يرد السيل مطلع".
تلك الخيمة اتسعت، فكرة ومساحة وأثرًا، لتصبح بحجم اليمن أوى إليها كل المقاومين، بما فيهم حتى أولئك الذين أسهموا في صناعة لحظة الانهيار وأعادوا حساباتهم متأخرين، ولم تك تلك الخيمة تتنكر حتى لمن كانوا يرغبون؛ بل وحاولوا مسحها من الوجود لحظة تأسيسها.
فلتبق تلك الخيمة شامخة بما مثلته من قيمة رافضة لفكرة ومشروع الإمامة، ومؤكدة على أصالة وفاعلية الموقف المجتمعي حين تتخلى المؤسسات الحكومية والقيادات السياسية في المركز عن دورها، وأن بإمكان الأطراف التي عانت الإهمال والتهميش والتشويه أن تعيد الحياة إلى الجسد الذي كاد أن يموت كليًا بفعل عطب أصاب الرأس.