في الوقت الذي كانت القلاع السيادية تتهاوى الواحدة تلو الأخرى، والمدن تفتح أبوابها وتسلم مصيرها للعصابات الانقلابية، والنخب من مختلف التوجهات السياسية والفكرية تبرر حماقات المليشيات ونزق وطيش قيادتها؛ بل وعدد من رموزها يتباهون بأخذ صور تذكارية مع شخصيات نكرة سطت على أحلام اليمنيين وتطلعاتهم، وانقلبت على المسار السياسي الذي أعقب الاحتجاجات السلميّة ضد نظام علي صالح، من باب النكاية بالخصوم، وغياب المسؤولية الوطنية، وانعدام التدبير الفطن، كان للمجتمع القبلي في صحراء مأرب كلمة مختلفة واستعصت فروع الأحزاب السياسية في المحافظة على مراكزها الرئيسة في العاصمة صنعاء؛ لتشكل القبيلة والأحزاب في هذه المحافظة المهمشة إجماعًا رافضًا للانقلاب الذي أقدم عليه تحالف الحوثي صالح في 21 سبتمبر 2014، وفرض السيطرة المسلحة على العاصمة صنعاء والمؤسسات والمصالح الحكومية بشكل دراماتيكي قبيح ومخجل.
قالت مأرب كلمتها الرافضة للانقلاب بالصوت العالي، وأظهر المجتمع القبلي الذي طالما شوهه نظام علي صالح على مدى سنوات حكمه نضجًا سياسيًا وحساسية وطنية عالية، رافضًا المساومة على مصير الوطن ورهن مستقبل أجياله بأيدي عصابات تحركها أهداف ومطامع مشبوهة وأجندات خارجية واضحة.
تداعت القبيلة برموزها الاجتماعية والسياسية والثقافية إلى معسكرات طوعية تسمى قبليًا بـ"المطارح" معلنة استعدادها الكامل للدفاع عن قناعاتها الوطنية، وعدم التسليم للميليشيات الانقلابية مهما كانت العواقب والتحديات، وخاضت ملاحم وطنية لا يستطيع أحد تجاوزها أو إنكارها، ودفعت أثمانًا غالية من دماء أبنائها في مختلف الجبهات.
مثلت مأرب بموقفها الوطني الواضح والصريح بارقة أمل لليمنيين في لحظة تاريخية فاصلة وحاسمة، وقصدها كل حر يرفض المذلة والخضوع والتسليم لأحفاد النظام الإمامي الذي لفضه الشعب اليمني في ستينيات القرن الماضي، وعاد اليوم ليطل بقرونه القبيحة من جديد.
وخاض أبناء اليمن من مختلف المحافظات والتوجهات على ترابها الطاهر معارك مصيرية بهدف القضاء على الانقلاب واستعادة عاصمة الوطن، ومعها الحلم اليمني في بناء دولة تحفظ كرامة اليمنيين وتلبي تطلعاتهم في الأمن والاستقرار والعيش الرغيد.
ينتظر اليمنيون اليوم، سواء أولئك الذين حول الانقلابيون مدنهم ومناطقهم إلى سجون كبيرة ويتعاملون معهم كرهائن حرب مهدوري الحقوق والكرامة، أو أولئك الذين قذفت بهم الأحداث إلى خارج جغرافيا الوطن، أو غيرهم ممن يشكون الارتجال وسوء التصرف والإدارة وتدهور الأوضاع الاقتصادية؛ جميعهم ينتظرون من مأرب مشروعًا وطنيًا جامعًا وكبيرًا بحجم الوطن وبحجم الآمال والتطلعات.
مشروع وطني يرتكز على الثوابت الوطنية، والتضحيات الكبيرة التي قدمها أبناء شعبنا خلال السنوات العشر المنصرمة من الحرب.
مشروع وطني يتعالى على الجراح والخلافات والمصالح الشخصية والحزبية، همه الوحيد اخراج الوطن من هذا الفخ الكبير الذي وقع فيه، وغايته الكبرى استعادة الشرعية وبناء اليمن الجديد الذي يحكمه أبناؤه يتسع لكل أبنائه.