برّان برس - وحدة التقارير:
صادف الأربعاء الماضي (18 من سبتمبر/أيلول 2024)، الذكرى العاشرة لمطارح مأرب، التي احتشد فيها أبناء محافظة مأرب (شمالي شرق اليمن)، لمقاومة هجوم جماعة الحوثي، ومحاولتها السيطرة على المحافظة النفطية بقوّة السلاح.
وكان المأربيون قد احتشدوا طوعًا إلى هذه المعسكرات الشعبية التي عرفت بـ“المطارح” في 18 سبتمبر/أيلول 2014، ومثّلت سورًا منيعًا أمام حشود الحوثيين وهجماتهم المتصاعدة من شمال وغرب وجنوب المحافظة.
وجاء تأسيس “المطارح”، بعد نحو شهرين من تحشيدات الجماعة الحوثية نحو محافظة مأرب، واعتداءاتها على أبناء القبائل في المناطق الحدودية مع محافظتي الجوف وصنعاء، وذلك عقب سيطرتها على مدينة عمران في يوليو/تموز 2014، وتزامنًا مع زحفها المسلّح نحو العاصمة صنعاء وإسقاطها في 21 سبتمبر/أيلول 2014.
كان لافتًا في “المطارح”، توافد أبناء “قبائل مأرب” إليها بمختلف انتماءاتهم السياسية والمجتمعية، وبعتادهم وأسلحتهم الشخصية، لتشكّل صورة مكثّفة لحالة التلاحم الذي شهدته المحافظة، قبائل وأحزاب وسلطة محلية.
يناقش “برّان برس” في هذا التقرير مع باحثين، أهمّية هذه “المطارح”، وأبعاد الموقف الذي جسّدته مأرب، وقبائلها وأحزابها ومكوناتها المجتمعية، وكيف يمكن الاستفادة من هذه التجربة على المستوى الوطني.
حول المطارح، قال رئيس مركز المخا للدراسات الاستراتيجية، عاتق جار الله، إن “الاحتشاد الشعبي الذي حصل هو مرحلة تحول تاريخي”، معتبرًا ذلك الموقف “فلسفة تعكس عمق نظرة أبناء هذه المحافظة لمفهوم الدولة”.
وذكر “جارالله” في تصريح لـ“بران برس”، ثلاثة دروس يمكن استخلاصها من هذه “الهبة غير المدروسة والشجاعة لشباب وقبائل ومشائخ مأرب”، في مقدمتها “التحام السلطة التنفيذية مع السلطة الشعبية، أي قيادات القبائل مع قيادة المحافظة، وأصبح موقف متماسك لأبناء مأرب سلطة وقبائل وشارع وشباب كلهم موقف واحد”.
ولفت إلى بعض التحديات باعتبار السلطة في صنعاء ليست متصلة بالسلطة في مأرب، وهنا قال إن “سلطة مأرب لعبت دور السلطة العليا، فيما لعبت السلطة الشعبية القبائل والمشائخ دور جيش الاحتياط”.
في اعتقاد ميساء شجاع الدين، وهي باحثة أولى في مركز صنعاء للدراسات الاستراتيجية، فإن معركة مأرب، “كانت معركة فارقة في الحرب اليمنية ككل، ولولاها لكان الوضع سيكون أسوأ بكثير في اليمن كله”.
وقالت “ميساء”، في تصريح خاص لـ“بران برس”: “لو كانت سقطت مأرب عمليًا كانت اليمن مفتوحة للحوثيين، ولم يكن هناك إمكانية للمقاومة، فلا يوجد أي طرف يمكنه أن يصمد هذا الصمود بعد مأرب، وبهذا المستوى من الصمود”.
وفي هذه الحالة، قالت “كنا سنرى الحوثي إما امتد لبقية اليمن أو على الأقل يهدد بشكل واسع بقية المناطق، وتحديدًا حضرموت وغيرها من المناطق الجنوبية التي تكون مكشوفه له”. ولهذا تعتقد أنها “كانت معركة محورية في حرب اليمن حددت مسارات كثيرة”.
ويتطابق هذا مع ما قاله “عاتق جار الله”، لـ“بران برس”، إن “الحوثي لو دخل وتجاوز محافظة مأرب ربما لوصل إلى المهرة خلال أسابيع، وبعد ذلك سيلتف على عدن مرة أخرى”.
وقال إن “مطارح مأرب كانت الصد الأخير لقلعة الجمهورية، وكانت الدرع الذي حمى مؤسسات الدولة التي التجأت إليها لاحقًا وبنيت تحت حمايتها”. مضيفًا أنها كانت “الصد الأخير للحفاظ على النظام الجمهوري، وبنفس الوقت كانت الخطوة الأولى في بناء الدولة الجديدة التي اليوم بدأت تتشكل وبنيت على أساسها وزارة الدفاع والداخلية“.
وعمليًا، قال إن “الجيش الوطني الذي اليوم هو الجيش الرسمي للدولة اليمنية تم بناءه في ظل حماية المقاومة والتي كانت انطلاقًا من المطارح”.
الباحث في معهد الشرق الأوسط، إبراهيم جلال، تحدث لـ“بران برس”، تزامنًا مع الذكرى العاشرة لمطارح مأرب، عن “دور مأرب التاريخي في التصدي للانقلاب الحوثي المدعوم من إيران الذي تم تحت غطاء سياسي برعاية دولية”.
وقال إن سلطة مأرب المحلية “تحت قيادتها الإستثنائية سطّرت بطولة فريدة في حشد وتعبئة المقدرات المادية والمجتمعية والمؤسسية للدفاع عن المبادئ والثوابت الوطنية والمؤسسات السيادية والبنى التحتية”. مضيفًا أن هذا جاء بوقت “تنصلت فيه الدولة عن واجباتها الدستورية، وتماهت فيه عدد من القوى والشخصيات الفاعلة لدوافع غير وطنية”.
وأضافت أن مأرب “أسقطت محاولات الحوثيين في إسقاط الجمهورية في الوعي الجمعي، وباتت ملاذاً آمناً لكل اليمنيين بما ذلك المقاومة”.
وخلال فترة الحرب، قال “برزت مأرب بتضحياتها وإنجازاتها كأنموذجٍ في إدارة المسارات العسكرية والإنسانية والتنموية بالتوازي”، مؤكدًا أهمية “المراجعة المؤسسية الشاملة” باعتبارها “الضامن الوحيد للحفاظ على المنجزات والتوجه نحو المستقبل بخطى أكثر ثباتاً لتحقيق إنجازات مستدامة”.
رغم فارق التسليح والضغوط السياسية، إلا أن مطارح مأرب، وفق إبراهيم جلال، دافعت عن “الدستور”، وعكست “وعياً جمهورياً مجتمعياً فريداً”.
وهذا الوعي، بحسب جلال، “يجمع بين فهم النهج الإمامي وممارساته على مر التاريخ تارة، واستحقاقات المستقبل تارة أخرى”. ويأتي هذا “رغم انهيار السلطة المركزية”.
وقال إنه “في الوضع العام، مسؤولية الدولة حماية المجتمع، وفي لحظة انهيارها، شكلت المطارح رديفاً قوياً لاستعادة الدولة، مؤكدة تمكسها بكيان وقيم الدولة”.
يتعلق الدرس الثاني، الذي ذكره “جارالله” لـ“بران برس”، باللحظة الزمنية، فباعتقاده أن “أبناء مأرب لعبوا دورًا قبل مجيء عاصفة الحزم، وأيضًا المقاومة في تعز وفي عدن”.
وأكّد أن “المطارح لعبت دور وطني مجرد، وكانت هناك تحديات حتمية، بل شبه مؤكدة أن هذه المطارح لن تصمد في ظل وجود ألوية نازلة من صنعاء ومحيطة بمأرب، وأخرى داخل المجمع لا زالت تتبع أوامر تأتي لها من صنعاء كما حصل بكثير من المحافظات”.
وقال: “أن تخرج كمجتمع وكسلطة محلية إلى مطارح تواجه الأمام، وأنت تشعر بأنك مستهدف من الخلف، أعتقد أن هذه جرأة سياسية ووطنية” تستدعي الوقوف أمامها وقراءتها بتأمل وعمق.
وأوضح أن هذا الموقف “جاء في ظل تحديات عالية جدًا جدًا، وفرص منخفضة بنسبة كبيرة جدًا. فرص حماية مأرب ناهيك عن التقدم باتجاه صنعاء الذي كان شبه مستحيل”.
ورغم هذا قال إن أبناء مأرب نجحوا في “تحييد بقعة جغرافية دعي إليها كل أحرار المجتمع اليمني ثم هبوا إليها وقووا سواعد المقاومة ثم بعد ذلك جاءت عاصفة الحزم”.
واختزل هذا الموقف قائلاً إن “المطارح حجزت منطقة معينة جغرافيًا، وأوقفت التاريخ الانهزامي في هذه اللحظة حتى حصلت تحولات محلية وإقليمية، ولما حصلت هذه التحولات محليًا من خلال الهبة الشعبية إلى مأرب والإقليمية متمثلة بعاصفة الحزم، تكون مطارح مأرب قد أخّرت تمدد الحوثيين وحرفت مسار التاريخ نحو استعادة الدولة والنظام الجمهوري”.
عن دور الأحزاب في مأرب، قال “عاتق جارالله”، إنه “كان لها موقف على خلاف الأحزاب الأم”. مضيفًا أن “حزب المؤتمر لعب دورًا مغايرًا تمامًا ومعاكسًا لدور المؤتمر المركزي. مثلًا الإصلاح لعب دور أشجع وأكثر جرأة من دور الإصلاح المركزي”.
والأحزاب الأخرى أيضًا، قال إنها “كانت موجودة بكل تفاصيلها”. وهذا البعد، برأيه، “أوجد لحمة ونوع من الاحتشاد والتماسك”. معتبرًا هذا “واحدًا من الدروس التي يمكن أن نستفيدها وهي أن تماسك المجتمع مع بعضه مع ما تبقى لديه من سلطات يستطيع أن يعمل أكثر وأكثر”.
من جانبه، يرى “إبراهيم جلال”، أن “وضع الأحزاب السياسية على المستوى الوطني بحاجة لتقييم شامل دون استثناء”.
وبرأيه، فإن “الدرس البارز الذي يمكن استلهامه من دور فروع الأحزاب بمأرب هو التمييز ما بين خيارات مراكز الأحزاب وتبعاتها في لحظات مفصلية، فعلى سبيل المثال دعم رئيس فرع المؤتمر بمأرب المطارح- على خلاف موقف الحزب العام- وعياً بالتهديدات المصيرية التي تواجه المحافظة والشرعية الدستورية والنظام السياسي وحقوق وتطلعات الشعب”.
تكمن أهمية معركة مأرب بدرجة أولى، وفق “ميساء شجاع الدين”، بأنها “أسقطت أسطورة إن الحوثيين لا يمكن أن ينهزموا، خصوصًا أن معركة مأرب جاءت في لحظة كان الحوثيون حققوا فيها انتصارات عسكرية كثيرة على المستوى الداخلي“. فقبلها حصلت معارك “مثل الضالع وعدن انسحبوا فيها لكن مأرب كانت المعركة الأطول“.
وفي مأرب، قالت إن الحوثيين كانوا “متمسكين فيها أكثر، وكان الحشد لها أكبر، والتحشيد لها أخذ أبعادًا مختلفة، مذهبية وطائفية وعقائدية”، رغم أن الأزمة في الأخير هي “ثروة مأرب”.
وكانت مأرب، وفق الباحثة، السبب في جعل الحوثيين يشعرون بأنهم انهزموا؛ لأنهم كانوا قد بدأوا يؤمنوا بأنه لا يمكن هزيمتهم، مضيفة أنهم “دائمًا يميلون لتبرير الهزائم التي يتعرضون لها بإرجاع سببها إلى التحالف ودعم الخارج وليس الأطراف الداخلية، ودائمًا يرغبوا في الاستهانة بالأطراف اليمنية المعادية لهم”.
إلا أن “معركة مأرب رغم الدعم الضئيل الذي حصلت عليه تثبت أن المسألة ليست مجرد دعم خارجي، وإنما بالعكس هي استبسال اليمنيين ورفضهم للحوثي”، وفق الباحثة ميساء.
من جانبه، أكّد “إبراهيم جلال”، أن المطارح، فندت مفهوم “القوة” الحوثية سواء بمفردها قبيل سقوط صنعاء، أو بعد سقوط الجوف بدعم المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة.
تاريخيًا، تقول “ميساء شجاع الدين”، إن “مواقف مأرب وقبائلها عادة منحازة للجمهورية، وهي عادة ترفض هيمنة الإمامة الزيدية من زمان”.
وأوضحت أن هذا الأمر “له علاقه بإرثها التاريخي في إطار الجمهورية اليمنية بشكل عام”. وسواء كان هذا “لأسباب جهوية أو مذهبية، إلا أنها تظل لها علاقة بالإرث الجمهوري بشكل من الأشكال”.
ووصفت هذه المعركة بأنها كانت “ملحمة”، وقالت إن “الخسائر فيها كانت ضخمة على مستوى الطرفين”. مضيفة أن “أبناء مأرب فعلًا قدموا فيها تضحيات استثنائية“. وكانت بالفعل “حاجز صد لتوسعات الحوثيين”.
وخلال المعركة الطويلة، قالت الباحثة الأولى في مركز صنعاء للدراسات، إن “مأرب أبلت فيها بلاء حسن، وبالذات قبائل مأرب التي تماسكت وتجاوزت خلافاتها في تلك المرحلة“ إلى جانب “قوى سياسية متعددة كانت موجودة وفاعلة في هذه الحرب”.
وقالت إن هذه الحرب “امتدت طويلاً، وكان فيها صمود واستبسال كبير، وفيها صبر وثبات. برغم أن الحوثي كان يضرب المدينة بالصواريخ بشكل عشوائي، وتأثروا الناس فيها”.
وتطرقت إلى العدد الكبير من النازحين المتواجدين بمدينة مأرب، وقالت إن “هذا أيضًا يحسب لمأرب أنها احتضنت الجميع من بعد الحرب. من مدينة مهملة لم يكن فيها أي بنية تحتية رغم أنها كانت تورد دخل للدولة، لكنها تعرضت لإهمال واسع، وشكل من أشكال التنميط السلبي”.
وفيما بعد الحرب، قالت الباحثة ميساء، إن مأرب أثبتت أن لديها “قدرة على احتضان الجميع، وتقبل جميع اليمنيين، ونجحت بتقديم نموذج للاستيعاب وللتعايش”، وقالت إن “هذا شيء يحسب لها، وخصوصًا في ظل إمكانياتها المحدودة”.
وأضافت أنه “بحكم أن البنية التحتية لمدينة مأرب كانت ضعيفة جدًا قبل الحرب، ولا تحتمل هذا القدر من النازحين خلال فترة وجيزة وأثناء حرب، أصبحت كلها أعباء تحملتها مأرب بشكل كبير وبدون دعم فعلي من الآخرين وهذا يحسب لها دائمًا”.
رغم أن أحداث الفترة الأخيرة كانت “سيئة” على الدولة والمجتمع اليمني، إلا أنها، وفق عاتق جارالله، “غيرت بعض المفاهيم ومنها أن أبناء مأرب صُوّروا بأنهم يقطعوا الكهرباء والطرقات وبأنهم بدو ومأرب بادية خارجة من منظومة الدولة. إلا أنه ظهر العكس تمامًا.
خلال السنوات الماضية، قال إن محافظ مأرب اللواء سلطان العرادة، ظهر “كرجل دولة كرجل دولة بدرجة بارزة كبيرة جداً، ورجال مأرب من حولة في السلطة المحلية من كل الأحزاب”.
وأضاف: “اليوم لا تجد في مأرب بأن هناك عنصرية أو تمييز. واستطاع أبناء مأرب أن يظهروا كرمهم وأن يظهروا وطنيتهم ومواطنتهم في نفس الوقت”.
وإلى ذلك قال إن “أبناء مأرب انتشلوا أنفسهم من تحت ركام الثأرات الداخلية بعد أن شعروا بأن هناك استهداف خارجي سيأتي على الجميع، فتم الاستعداد لهذا الطوفان، وتناسي الخلافات”.
واليوم، قال إن “الصف المأربي أصبح يشكل الدولة، ويمثّل الحاضنة الدافئة لأحرار اليمن”.
في ختام حديثه لـ“بران برس”، قال الباحث “إبراهيم جلال”، إن مأرب “كانت ولا زالت هدفاً للحوثيين”. موضحًا أن هذا “ليس لأنها تشكل ثقلاً سياسياً وثقافياً واجتماعياً واقتصادياً فقط، بل لأنها حاضنة لمشروع الدفاع عن الجمهورية واستعادة الدولة”.
وشدد على أن مأرب “استطاعت إثبات قدرتها على التمسك بقيم الدولة والجمهورية، وإحيائها في الوعي الجمعي. ولا زال صمودها العمود الذي تتكئ عليه الجمهورية، والأمل أن يبقى الملاذ الآمن والركيزة الأساسية لمشروع استعادة الدولة بالتكامل مع القوى الوطنية في ربوع الوطن”.