من يقول أن جمهورية سبتمبر انتهت في نوفمبر 1967م، ألا يدري أنه بهذا القول يفصل ثورة 26 سبتمبر عن نجاحها العملي التاريخي التصاعدي على مدى نصف قرن، ويحكم عليها بالفشل والموت المبكر؟
في ظني لا يوجد بخس للحدث أسوأ من هذا.
كما لو أن ذلك الحدث العظيم لم يحقق لليمن الا ما تحقق في تلك المدة القصيرة (خمس سنوات)، سنوات الحرب والنزال!
ويا له من محصول زهيد جداً لثورة،
زهيد إلى درجة أنه يميت الرغبة في احياء ذكراها والتغني بها.
نحن نقول لا،
المحصول كبير، بل كبير جداً رغم كل شيء،
وأن جمهورية 26 سبتمبر تاريخ حافل يضم في طياته كل ما حدث طوال العقود التالية للثورة وصولاً إلى لحظة سقوط العاصمة قبل عشر سنوات.
لولا هذا لما كان لدينا اليوم سبب مقنع لإطراء وإحياء ذكرى ثورة 26 سبتمبر، ولما كان لدينا سبب للتحسر على جمهورية دُفنت في مهدها قبل ولادتنا بسنوات طوال، ولكُنَّا غرباء مثل ذلك الشيعي الذي ينكر معظم تاريخ الإسلام، وما نتج عنه من حوادث وصروح وهياكل وحضارة وأصول، بحُجة أن الاسلام الحق انتهى باجتماع السقيفة الذي أسند الخلافة لغير أهلها!
بديهي أن الثورة بالمفهوم السياسي والاجتماعي ليست غاية في ذاتها بحال من الأحوال.
والمعنى أن قيمتها الأخلاقية والوطنية لا تكمن فيها وإنما هي معلقة بأغراضها النافعة.
ينشأ عن ذلك أن الثورة مقدمة والدولة نتيجة.
الحكم على الأولى تصويباً أو تغليطاً معلّق على شهود الثانية.
فالثورة سبب إلى الدولة، والدولة بدورها سبب إلى ما يُسمّى "الخير العام".
أو لنقل بلغة الفقهاء:
الثورة وسيلة لدفع ما هو ضار، والدولة وسيلة لجلب ما هو نافع.
تلك آلة نزع ونقض وهذه آلة وضع ونظم.
الأولى عمل وطني بالسلب والنفي، الثانية عمل وطني بالإيجاب والاثبات.
فالنجاح له وجهين، وكذلك الفشل.
أولاً، النجاح في النقض، وثانياً، النجاح في الإثبات، ويتحقق هذا الأخير من خلال الدولة وأعمالها من تنظيم وتمدين وعُمران وفضائل عامة.
إذا سارت الأمور بخلاف هذا، فالثورة تخسر أسباب التقدير والتعظيم، وربما ظهرت في التاريخ كأنها كارثة ومحق وهدم وفساد.
وقد جمع الحدث السبتمبري بجدارة منذ العام 1962م بين النجاحين: نجاح في النقض [نقض المنظومة الإمامية] ونجاح في الإثبات [تشكيل الكيان الوطني الجمهوري]، فهي ثورة ودولة.
نقول هذا لأن ثمة من يغالي في تصوير الثورية وإظهارها كأنها مزاج وطبع وغاية تُطلب لذاتها، لا مجرد وسيلة تفضي إلى غاية.
هذا الموقف يأخذ صاحبه إلى تقديس وطنية النفي والسلب المتمثلة في الثورة والتمرد على حساب وطنية الإيجاب والإثبات عبر النظام والدولة.
والأصل أن يكون فكرنا الوطني أكثر اعتدالاً ورشداً، فلا يقدم الثورية إلا حين يقتضي الأمر تقديمها، ثم يعطي جُلّ اهتمامه لموضوع الاجتماع والانتظام وما يلزم للترقي والنماء.
إذا كان أرسطو قد قال أن "الإنسانية أُفق والإنسان متحرّك إلى أفقه بالطبع"، فهذا ما ينبغي قوله أيضاً عن الجمهورية في اليمن، فهي أفق سياسي واجتماعي وأخلاقي، واليمني متحرك إلى أفقه بالطبع!
القول بأنها "أُفق" يساعد على تصورها كوجهة ونقطة وصول بالنسبة للرحالة والمسافر.
إذا أخذنا هذا المعنى بالاعتبار فسوف نكون متهاونين قليلاً وكرماء في تقييمنا للتجربة الجمهورية في اليمن، الحديثة عهداً، العظيمة أثراً، والقصيرة عُمراً.
ذلك أن الأعمال المستجدة الفارقة في السياسة والاجتماع لا تلمس الغاية البعيدة التي لها من أول وهلة، وإنما تسافر نحوها على مراحل، وهذا الانتقال هو تاريخها.
وعليه فإننا اليوم نكون أقرب إلى الصواب بالتصالح النفسي والعقلي (الفكري) مع الجمهورية كواقعة تاريخية، كعملية، كقصة لها فصول ومراحل وأعمال وآثار ورجال وآداب.
وما الجمهورية كواقعة تاريخية؟
سبق لي أن أوجزت القول عنها في كلمات:
الجمهورية في حالتنا هي فترة من التاريخ قبلها ظلام وبعدها ظلام.