حين يفجر الشاعر طاقاته الكامنة بداخله، ويطلقها خطابا شعريا يلامس الأحاسيس ويخاطب الوجدان، فإنه بذلك يقوم بفعل ثوري على ديناميكية التواصل بينه وبين محيطه، بل بين خيالاته الكامنة بتحويله لغة الخطاب العادي إلى لغة محملة بالوجدان، مضمخة بالشعور والإحساس، لذا كان للشعراء حيز كبير في كتابة سفر التاريخ وفي تدوين أحداثه وفي توثيق ثوراته، نظرا لتفاعلهم معها وتعبيرهم عنها وتوثيقها بخطاب شعري يظل في مختلف سياقاته متحضراً مدنياً، حاضراً في الأذهان متداولا تتناقله الأجيال..
ونحن نقف هنا أمام ثنائية يعبر فيها كل قطب عن الآخر..
الشعر كحامل للفعل الثوري، وترجمان لأحداثه، والثورة كمحفز لوجدان الشاعر ولتناوله حيثياتها، وإعادة تشكيل الوقائع برؤاه الخاصة، وطرحها لجمهوره تحمل مضمون رؤيته ومكنونات مشاعره، وبشاعريته في قصائد تخاطب الوجدان فتحفزها بصورة ثورية واسعة النطاق..
وفي السياق نلاحظ أن بين الثائر والشاعر علاقة وطيدة، فكلاهما يحمل بين جوانحه بركاناً يتأجج وحنيناً يروم التغيير، وأنيناً يصوغ من حالاته الشعورية صوراً شعرية، مؤثرة، وكمية قيم جمالية يلمحها القارئ إما بتوجه الشاعر نظرياً يسلكه، أو سبيل عملي تطبيقي رآه ويراه الثائر أنه الخيار الأفضل لإحداث التغيير الاجتماعي، فهما يتقلدا مهمة الإصلاح الاجتماعي، وصناعة الوعي الثوري؛ لكن كل بأسلوبه ومنهجيته التي انتهجها بناء على قناعاته ومبادئه التي آمن بها.
ومثلما سماها الشاعر الأستاذ والفيلسوف الثوري الجمهوري عبدالله البردوني :
"الثورة حصاد تجريبي تحولي".. يكمن هنا رأي الشاعر، وتتجسد وجهة نظره للثورة،
بالتالي فكل نتاجات الثورة تحرّرية قادرة على تجاوز كم التعقيدات الفراغيّة، وحتى كانفعالات إنسانية مستديمة بقيادة جملة مثقفين، مفكرين قادة رأي، شعراء، آخرين، إلا أن الشاعر المثقف في هذه المعمعة هو جوهر المدى الأعمق وعياً وعمقاً وتصوراً، وعليه تُسند إليه صياغة البيان رقم 1، كذا أغلب حالات وأدبيّات ومُسودّات وبيانات وخطابات الثّورة كلاعب سيكولوجي يقف في مقدمة الصف الثوري بأفكاره المرتبطة بكينونة الثورة، ككيان تحوّلي وبانفعالات الشّارع، كفاعل خطابي بياني بلاغي مؤثر بأسلوبيته الجمالية في الصياغة، وبقدراته التأثيرية في الطرح، وبكذا يصبح ركناً من أركان الثورة، ضمنا ومضموناً، ليتبوأ امتيازاً كعٓرّاب للثورة، موجّهاً لمساراتها وسياقاتها وللجانب الرّقابي كشوكة ميزان بوعي هو الآخر تحوّلي بامتياز.
ولا يمكن تجاهل شعراء الثورة الفرنسية أمثال فولتير وغيره ودورهم في تضمين مبادئ الثورة، وفي تعزيز أهدافها النوعية، والتي تحولت بفضل هؤلاء النوعيين إلى مقررات أدبية وروائية وتوثيقية يستنتج منها شارع الثورة ما يمكن وما لا يمكن في سياق الثورة من تصرفات ومن تصورات، هي في مجملها أعمق من انطباعات ذاتية، بقدر ما هي مفاهيم ثورية يجب احترامها، وتجسيدها كقياسات تقوم عليها للمجتمع مفاهيم الحاضر الثوري ومستقبله.ط
هذه الثنائية عبر عنها شعراء مأرب منذ ثورة الدستور التي كان من أبرز رجالاتها الشيخ المناضل الشهيد علي ناصر القردعي رحمه الله، والذي خلد مسيرته النضالية في ديوانه الشعري وقصائده الثورية التي عبر من خلالها نهجه الثوري، فها هو يقول حين لاحت بوادر الثورة:
بارق برق من على صنعاء محل الجهاد
سيله معابر وسبله من بنادق جداد
لاما حضرته فلا آنا نسل مسعد عباد
فالفعل الثوري هنا هو نتاج فلسفة متكاملة الأركان، جعلته يتغنى ويظهر رغبته بالتحاقه بالثوار، والتخطيط للتخلص من الإمام يحيى، فتشاء الأقدار أن يكون هو ومجموعة من الثوار العناصر المختارة لتنفيذ هذا الأمر ..
والمراجع للديوان الشعري للقرادعة ستتجلى له السمات الفنية لتجاربهم التي تظهر فيها الحماسة والفخر كحامل موضوعي للفعل الثوري المعبر عن نفوسهم الحرة الكريمة التي تأبي الضيم وتمج حياة الذل وتعشق الحرية والكرامة ما دفعهم للانخراط في صفوف المناضلين.
مضى القرادعة بعد أن سجلوا بحروفهم صفحة خالدة في تاريخ النضال اليمني، في ثناياها حيثيات الفترة الزمنية التي خاضوا فيها السجال بشجاعة آملين أن يكمل أبناؤهم وأحفادهم ما بدأوه، كما قال الشهيد احمد ناصر القردعي:
لا ما اتلينا توصينا العول الاوراع
ولم يمض عقد من الزمن الإ وقد لاحت بوادر حراك ثوري مستمر، يتطلع لتجاوز إخفاقات الماضي، فكان ذلك، وأشرقت شمس الحرية يوم الخميس السادس والعشرين من سبتمبر عام ١٩٦٢م.
ولم يكن الشاعر المأربي بمنأى عن الأحداث، فعبر بروحه الثائرة عن تطلعه لتغيير الواقع البائس، فمنهم من تنبأ بقيام الثورة كابن العميا بن جرادان الذي قال:
يالله على مارب قنابل من بطون منحسات
في إشارة إلى الطائرات المصرية التي جاءت لاحقا، حيث لم تمض سنوات قليلة حتى كان ما تنبأ به، وأشرقت أرض اليمن بنور الجمهورية، التي احتفى بها الشاعر عبدالله خميس عطية في أنشودته الوطنية:
جمهورية من قرح يقرح
والتي صدح بها الفنان محمد البصير في العيد الأول أو الثاني للثورة المجيدة.
وبعد ذلك ظل الشاعر المأربي وفيا لقضيته الوطنية ولم يتخل أبدا عن ثوابته، ولم ينس النبض الثوري الذي يحرك صدره دائما.
لذا وعندما أحس بالإحباط خلال السنوات الأولى التي أعقبت ثورة سبتمبر جراء المماحكات والمشادات السياسية، وبالتالي الإخفاق في تحقيق أهدافها، عبر عن ثوريته المستمرة، وأطلق صيحة الرفض المنددة بالواقع المغاير للصورة الذهنية التي رسمها في مخيلته، وترجم شعره مبادئ ثورته التي وصفت ذلك الواقع وحددت علله وإرهاصاته، فباح بأسلوب ممتزج بالسخرية اللاذعة عن مكنوناته قائلا:
أبي مات الإمام وقامت الثورة
أبي إنا سنحميها
سنشبع من فطير البر
ونلبس كاكي المصنع
ونجعل من أسافلها أعاليها
وتقمص الشاعر في ذات اللحظة الواقع على لسان أبيه وهو يرد عليه قائلا:
فقال أبي
لك اللعنات والطاعون
لماذا تحمل البندق؟!
الضعفاء هم الضعفاء
هنا الجدران قد تسمع
إليك وصيتي خذها ولا تفزع
أموت أنا
يموت أبي
يموت الزرع في الحقل
وألف مشرد مثلي
ليحيا غالب الأجدع
ويحيا جعبل امشعوي
ويحيا من جديد حامي الضعفاء سيدنا
***
سخرية مريرة امتزجت بجلد الذات بغية تقويم الاعوجاج، وإعادة الأمور إلى نصابها، لتحقيق ما حلم الثائر ببلوغه، ورسمه نظرية لم يكتب لها بعد أن تغدو واقعا ملموسا، فحمل الشاعر عناء البوح بهذا الوجع المكتنز في ضمائر أثقلتها تراكمات عقود من الجهل والفقر والمرض..
ورغم السوداوية التي تكتنف المشهد من خلال قراءة حيثياته قراءة شعرية، إلا أن الشاعر لم يصبه اليأس مطلقا، وظل يحتفل بأعياد ذكرة ثورة سبتمبر المجيدة، ويصور بوجدانه المثقل هموم الشعب اليمني آملا أن يكون بحق ضمير أمته النابض، فهذا الشاعر المأربي الحريبي العقيد محمد الحمصي رحمه الله، وهو أحد المناضلين والضباط الذين ساهموا في النضال الثوري، يقول في إحدى قصائده:
للشاعر محمد الحمصي
يا عيد سبتمبر سراج الظلمه
ذكراك ذكرى خالده ميمونه
انت اللذي حررت هذا الأمه
من الإمام الطاغيه وسجونه
ذي كان يربط الاعشّره في رمه
ومن رفع راسه دخل في الغونه
ولو أمير الجيش ضيّع كدمه
دّرّك بها اهل الفرم وأهل الشونه
وأيلول حرر شعبنا من حكمه
وأخرج فلول الطاغيه مذعونه
وساهمت مأرب بأكبر سُهمّه
في الأربعينيات أول عونه
القردعي نا عيد والله خشمه
ركّز بيحيى ما رجع من دونه
وبن معيلي ثار وأدى غرمه
وابن العواضي هو وصنوه جونه
ضحوا مع الثوره وذي هو جهمه
لازم يضع الاحرار نصب عيونه
ومن نسّب ضد أهل مأرب تهمه
كذاب.. مأرب وأهلها مضمونه
مأرب من أرض العبديه لا ثومه
منكم تريد مساعده ومعونه
قلّنا أن صافر بايزيل الغمّه
منها وقلّنا الفايده مسهونه
من المصافي ماطعمنا جغمه
والبيب له بوبكر بن حسونه
صاب الله الزمره وصاب الطغمه
كلن يبرّع منهم صالونه
والحزب ذي يأخذ معاشه قُدمّه
من أي دوله جعل له طاعونه
وانا وجاري سوف نصبح خُصمّه
إذا تدّخل في اليمن وشؤونه
ويستمر في المساهمة بالاحتفال بأعياد الثورة كلما حلت ذكراها، فيقول في مطلع قصيدة أخرى:
يا عـيد سـبـتمــــــــبر الخالد هـلٲ يا مراحب
و آنسـت يا خيــر عيـد
مع قدومك أطل النــــــــور من كــــل جـانب
على يـمّنا السعـيــــــــد
يا عيــــــد أيلول هذا اليــــوم يوم المكاسب
يوم الكفاح المجيــــــد
يوم أشرقت فيــه شمس الحريه و الكواكب
جاءت بفجـــر جـديـد
و أتحرر الشعب و الجهل أنتهى و الرواسب
و أتطـــور العلم أكيــد
لقد وثق الشاعر المأربي حضوره في المشهد الثوري وتفاعله معه في مختلف مراحل الجمهورية منذ قيام الثورات اليمنية، وساهم في التغني بأهدافها ومنجزاتها فهذا الشاعر أحمد صالح منيف في إحدى قصائده احتفاء بحلول ذكرى عيد 26 سبتمبر عام 1986م، ويقول:
أيمني وإيماني يماني
وإني باصلي اليمني أفخر
أنا حامي الحمى طول الزماني
لأعدائي زرعت الموت لحمر
ُ
اُدافع عن وجودي وعن كياني
ولا اخشى العدو مهما تجبر
إذا داعي الفدأ يوما ًدعاني
البي قائلا ً الله ُ أكبر
أنا من للحضارة كنت باني
ويشهد لي بها سبأ ٌ وحميّر
صنعت المعجزات بلا تواني
وفي سبتمبر القيد ُتكسّر
وفي أكتوبر تحققت الأماني
نهار العنف من ردفان زمجر
سحقت إلى الأبد مصدر هواني
نظام الشعوذة بزعامة البدر
هزمت المستعمرين اعليت شاني
وفي نوفمبر اتحقق لي النصر
فيا وطني لك اليوم التهاني
بذكرى يوم فيه الشعب جمهر
وحتما ً وحدتي ستعود ثاني
بفضل الله وقايدنا المضفّر
وللأحرار حبي وحناني
وقلبي على العدوا اقسى من الصخر
سأصمد للعدو مهما رماني
صمود الراسيات السود واكثر
ولا زال الفعل الثوري حتى اللحظة يشغل حيزا كبيرا في النتاج الشعري لشعراء مأرب، وما استشهدنا به هنا مجرد غيض من فيض.