قد تكون وجهة نظري التي سأعرضها، بناءً على القراءة التاريخية لأحداث الثورة، مغايرةً بعض الشيء لقناعات بعض الباحثين والكُتّاب، لكن وجهة النظر هذه قائمة على تحليل مجريات أحداث وأيام الثورة، ومفردات خطاباتها واجتماعاتها، وتصرفات أشخاصها، كما سنعرضها تالياً، ولكلٍ أسلوبه وتحليله ووجهة نظره.
فبعد مراجعة الثوار الأوائل (غير شباب تنظيم الضباط الأحرار) كالزبيري والنعمان والموشكي والإرياني وصبرة والفسيل وجمال جميل والثلايا وغيرهم، لأحداث وإخفاقات ودروس الثورة الدستورية عام 1948، واستلهام دروسها، وكذلك دروس حركة 1955، وصل الجميع إلى قناعة العمل الثوري من داخل الصف العسكري الإمامي، ووقعت أعين الجميع في بادئ الأمر على العميد حمود الجائفي الذي بدا متردداً ومعتذراً عن قيادة الثورة، رغم إيمانه المطلق بها وتقديم كل ما يستطيع تقديمه من دعم لها.
مبعث تردده هو شبح إخفاق ثورة 48، والتخوف من إخفاق جديد تصل دماؤه إلى كل أنحاء اليمن، وتعريضُ أمل وتطلع الشعب اليمني بالتحرر لنكسة ويأس من عدم القدرة على التغيير، ولذلك طلب التفكير ملياً في برامج وخطط الثورة زمناً وإمكانيات وقناعات.
بدا لكبار الثوار أنه لا تراجع عن الثورة في الوقت المنظور، ولا أمل في الإصلاح الداخلي الذي كان البعض يراهن على إصلاح البدر له، لكن رهانهم كان خاسراً نظراً لأنهم راهنوا من قبل على أبيه أحمد ضد جده يحيى، فانقلب عليهم أحمد وأعمل السيف في رقاب كثير منهم دون رحمة، وما هي إلا فترة زمنية وإذ بالبدر أيضاً ينقلب على وعوده الإصلاحية كما فعل أبوه الطاغية من قبل.
هذا الانقلاب البدري عزز من التوجه الثوري لاجتثاث حكم الإمامة من الأساس، مع الوصول إلى قناعة تامة باليأس من الإصلاح الداخلي، وظل الثوار يعملون بكل السبل والمجالات؛ من الفكر التنويري، والتحريض الثوري، وغرس القناعة في نفوس الناس والشباب في التغيير، فقد كان الزمن والأحداث في المنطقة كلها لحظات ثورية تحررية سواء من الاحتلالات الخارجية أو من التخلف والاستبداد الداخلي.
بصيص الإصلاحات والتوجهات الداخلية للبدر وأبيه في بعث قليل من الطلاب إلى الخارج للدراسة، والتدريب على السلاح الجديد الذي سيستورد لاحقاً من الاتحاد السوفييتي، والطلاب المتدربون من الجيش الإمامي عليه سواء في العراق أو مصر أو روسيا؛ فتح ثغرة بسيطة في جدران وحصون الإمامة العاتية كثقب يتنفس منه السجناء اليمنيون وليطلعوا من ثقبه على العالم ومعيشتهم وتقدمهم والحياة الباذخة التي يعيشون فيها، وبالتالي يعطيهم أملاً ونظرة كيف يمكن أن يلحقوا بلدهم ببلدان العالم المتحضر، والخروج من العزلة التي يعيشون فيها.
أولئك الطلاب الذين ابتعثوا للخارج عادوا بقناعة الثورة الداخلية، وكذلك الطلاب المتدربون في الداخل على أيدي البعثات العراقية والمصرية والسوفييتية تشربوا نفس الأفكار، خاصة من البعثتين العراقية والمصرية اللتين غرستا هذا التطلع للتغيير في نفوس الطلاب العسكريين من الجيش الإمامي، وإن كان بشكل أقل من الطلاب المبتعثين بفعل الاحتكاك بالعالم.
كان أعضاء البعثات إلى الداخل يحاولون جاهدين استمالة الطلاب المتدربين وإذكاء نزعات التحرر في نفوسهم، وبث روح التذمر من الوضع البائس والقائم في البلاد في نفوسهم، فكان أن زرعت في نفوس بعضهم حب الخلاص والتوجه نحو الثورة، ولأول مرة يعرف الشباب اليمنيون المظاهرات والتجمهرات بعد العدوان الثلاثي على مصر فتظاهروا مؤيدين لمصر منددين بذلك العدوان، إلا أن نفوس الطغيان تفسر كل شيء ضد مصالحها (يحسبون كل صيحة عليهم)، فتم اعتقال كثير منهم من قبل الإمامة، لكن تلك التظاهرات كسرت حاجز الخوف لدى اليمنيين حتى وإن قُمعت، وتم تكرارها في الأعوام اللاحقة لكن هذه المرة كانت غاضبة على الأوضاع المعيشية في البلاد وضد الإمامة نفسها.
عملت تلك التحركات الداخلية والخارجية على استقطابات كبيرة للثورة، ووفرت عمقاً شعبياً وحاضنة شعبية كما وفرت رافداً بشرياً للثورة حال قيامها، ولولا ذلك العمق والحاضنة التي تعمي أعين الإمامة التجسسية لانكشف تنظيم الضباط الأحرار، وانكشف الثوار، وانكشفت خططهم وأهدافهم وأُسلِموا لمصير محتوم.
كان #السلال والعمري وجزيلان وعبدالمغني والأشولان والجائفي وضيف الله والرحومي وبيدر ومحمد مطهر زيد والرحبي وغيرهم هم من هذه البذرات التي أينعت فيما بعد وأثمرت الثورة العظيمة، رغم أن السلال كان أكبرهم وأقدمهم وتعرض لسجنين مختلفين بعد #الثورة_الدستورية 48 و #حركة_الثلايا 55.
من خلال مراجعتي لأحداث الثورة والقراءة المتعمقة فيها كانت كل خيوط الالتقاء تتقاطع عند الشخصية المحورية للثورة، وهي العميد عبدالله السلال، ولولا استقطاب الرجل لما نجحت الثورة البتة لعوامل كثيرة أهمها:
1- أنه كان مقرباً من البدر ورئيس حرسه والعارف بكل تفاصيل حياته وتحركاته، مما يوفر له غطاءً عسكرياً وسياسياً ويمنحه حرية الحركة واتخاذ القرار الذي يكون غالباً في صالح الثورة والثوار، وقد رأينا كيف أنه وجه حراسة مخازن قصر السلاح بفتح المخازن ليلة الثورة تحت توقيع أمير الحرس وليس بصفته قائد الثورة أو الرئيس. وكان غطاؤه السياسي والعسكري أيضاً بمثابة غطاء للثوار من تنظيم الضباط الأحرار أو غيرهم، مما سهل مهمة استقطاب كثير من الكتائب للثورة بأسلحتها وشل حركة المناوئين للثورة المخلصين للإمامة.
2- تزويدِه الثوار بالأسلحة والذخائر، التي كانت أساسَ نجاحِ الثورة في إيجادِ السلاح وخذلانِ رأسِ الكهنوت بِسَلبِه أهمَّ رجاله وأهم أسلحته ومعاقلِ السلاح المتمثلِ في مخازنِ قصرِ السلاح بكل ما يحتويه من أسلحة وذخائر متنوعة وأغذيةِ جيشِ الكهنوت، حيث وجه أمرَه إلى حاميةِ قصرِ السلاح بفتحِ المخازن تحت توقيعِ أميرِ الحرسِ الخاص لا توقيعَ الرئيس، مما سهل المهمةَ ونجاحَها، فقد كان فوجُ الإمام البدر الذي يقبعُ تحتَ جناحِ السلال وهو يعتبر قواتُ النخبةِ الإمامية تسليحاً وعناصرَ مدرَّبة، وباستمالةِ قائدِه للثورة شُلّت هذه القوة واستُمِيلت بقيةُ القواتِ الموزعةِ حولَ العاصمة صنعاء، والتي كان الثوار يخشون جانبَها كثيراً أن تفكَ الحصارَ عن قصرِ البشائر ويمكن أن تفشلَ الثورة.
3- إقدامه على قيادة الثورة من داخل الصف الإمامي، على إثر اقتراحه من قبل القاضي عبدالسلام صبرة وعبدالغني مطهر، وأخذ العهود والمواثيق منه بالعمل على إنجاحها، بعد تردد ورفض العميد حمود الجائفي لتلك القيادة.
4- شجاعته وإخلاصه للثورة وتطلعه لخلاص شعبه من حكم الكهنوت الطاغوتي المتسلط على رقاب اليمنيين.
5- خبرته العسكرية والسياسية الطويلة بفعل احتكاكه بالقصر عسكرياً وسياسياً، ومكوثه فيها زمناً طويلاً أهله سياسياً وعسكرياً وقيادة وخبرة ليقتحم العقبة وركوب الأهوال، ومن خلال الأيام الأولى للثورة برزت مواهبه القيادية وحنكته وشجاعته في اتخاذ القرارات الكبيرة وعدم التراجع في أحلك اللحظات.
6- احتكاكه بثوار 48 في سجن نافع بحجة، وبالتأكيد تعلمه منهم وتأثره بهم هناك، وهذا العامل من أهم عوامل الاستقطاب السري للسلال ضد ما يروج له البعض سواء من مرافقيه أو كُتاب وباحثي اليوم أنه انضم للثورة متأخراً ليلة الثورة، وهو أمر مجحف بحق الرجل؛ فقد ذكر عبدالغني مطهر أن الإرياني كان على اتصال بالسلال والعمري وعلي عبدالمغني وجزيلان في عام 1958، وأنه التقاه في تعز عام 1960 وأخبره أنهم (الأحرار) يعدون للثورة، وأبلغه سلام القاضي عبدالسلام صبرة "وجميع الأحرار في صنعاء".
7- إذا لم يكن الرجل من صف الثوار الأوائل فيكف يسجن مع ثوار 48 بسجن نافع بحجة؟!
فقد كان -رحمه الله- في كل مواطن التخطيط للثورة، وكان يرعى الخلايا الثورية مع أستاذه وقائده الشهيد جمال جميل وهو في القصر، ويخرج للقاء الثوار وتنظيم الضباط الأحرار في كل البيوت التي اتخذوها مقاراً لمخططاتهم الثورية رغم أنه خرج من سجن نافع بحجة بعد اتهامه بالمشاركة بالثورة، وعاد مرة أخرى إلى القصر.
تشير بعض المعلومات أن السلال كان قد زين للبدر أن يستقدم صفقة السلاح الجديدة من السوفييت من الحديدة إلى صنعاء، والذهاب بها إلى مخازنه في قصر السلاح، وكان غرض السلال من ذلك أن تكون على مرأى منه وتحت إشرافه ومن السهولة عليه السيطرة عليها واستخدامها للثورة بعد ذلك، وإبعادها عن تعز التي كان الثوار سيقومون بالثورة منها، وكانت النتيجة مثلما خطط لها تماماً.
بكل تأكيد أنه ما كان للسلال أن ينجح كل ذلك النجاح في قيادة الثورة وإتمامها وإنجاحها لولا وقوف معه ضباط وأفراد شجعان مخلصون مقدمون غير متهيبين، مقتحمين الأهوال كعلي عبدالمغني ورفاقه من تنظيم الضباط الأحرار (وهذا سنفرد له حلقات أخرى)، والذي كان الجميع في عمل متكامل ومترابط، وهذا التكامل هو الذي كان السبب الأكبر في إنجاح الثورة والوصول بها إلى بر الأمان.
يعتبر السلال في قصر الإمام كموسى في قصر فرعون؛ يتربى على عيني الإمام ويتأهل للقيادة في قصره؛ فقد كان كامناً غير مبدٍ ثوريته ولا تعاطفه مع الثوار علانية، لكنه سراً كان أهم عقل مدبر ومنفذ لها، وسريته تلك هي التي جعلت الكثير من الرفاق لا يعطونه وحقه ويعتبرونه التحق تالياً في اللحظات الأخيرة من الثورة.
فبحسب سرية تنظيم الضباط الأحرار كانوا مشكلين على مجموعات غير مترابطة لا تعرف المجموعة (ب) المجموعة (أ) حتى لا ينكشف أمر الجميع، وهذا هو السبب لعدم معرفة قيادة الثورة وخاصة السلال، خاصة وأن السلال فيما بعد بفعل الانقلابات المتكررة غمطته حقه بعض الشيء.
كان الإمام أحمد أيضاً يعتمد على التنجيم في بدايات الأربعينيات يبحث عن مستقبله عندهم، وكان مما قيل له إن حكمه سيزول على يد رجل اسمه عبدالله، وقد أفردنا مقالاً كاملاً عن هذه الحادثة بعنوان (موسى اليمن وفرعون العصر.. نبوءة زوال الإمامة!)، يرجى العودة إلى تفاصيلها، ولم يكن هذا الرجل سوى الزعيم عبدالله السلال.
ولقد كان السلال حاسماً وحازماً في أمر الثورة؛ ففي اجتماع قبل الثورة تم اقتراح الشيخ محمد علي عثمان والعقيد عبدالله الضبي أن يتم التخلص من الإمام أحمد وتأجيل البدر لفترة تالية، لكن السلال وقف بحزم وقال رأيه بشجاعة وقوة: يجب التخلص من الإمام وابنه البدر، وقد كان بعيد النظرة ثاقب الرؤية في الأمر؛ إذ إنه لو تم التخلص من الإمام أحمد فقط فإن البدر كان سيفعل ما فعله أبوه حينما قتل أبوه يحيى فاستعان بالقبائل وجيش الجيوش للقضاء على ثورة 48، وكذلك فعل البدر نفسه في حركة 55 حينما تم إجبار أحمد على التخلي عن العرش لأخيه عبدالله، فقد ذهب البدر إلى حجة وصنعاء وجاء بثمانية آلاف مقاتل واسترد عرش أبيه وقضى على حركة الثلايا والجيش المتمرد على ابيه.
إنني أشبه فعل السلال في الثورة ضد الإمامة بنفس الفعل والخطوات التي قام بها مؤسس الدولة الرسولية عمر بن علي رسول حينما انقلب على الأيوبيين وأسس أعظم دولة يمنية في التاريخ بعد الإسلام.