برّان برس | أعد التقرير - إيناس الحميري:
يعد 26 سبتمبر/أيلول 1962، يومًا استثنائيًا في ذاكرة الشعب اليمني، حيث شهد ميلاد الجمهورية اليمنية بعد إسقاط الحكم الإمامي، في ثورة قادها الضباط الأحرار بدعم شعبي واسع.
في المقابل، يمثل 21 سبتمبر 2014 يومًا مظلمًا في تاريخ الشعب اليمني، ففيه سيطرت جماعة الحوثي المدعومة إيرانيًا، على العاصمة اليمنية صنعاء، وانقلبت على الحكومة الشرعية، ودخلت البلاد بعدها في دوامة من الصراع والعنف المستمرين.
بين هذين التاريخين، تتجلى معركة هوية سياسية لليمن؛ جمهورية قائمة على إرادة الشعب في مواجهة مشروع ديني طائفي يسعى لإعادة اليمن إلى الماضي الإمامي.
قبل ثورة 26 سبتمبر، كانت اليمن تعيش تحت حكم الإمامة الزيدية لعدة قرون، وتركزت السلطة في يد الإمام الذي يحكم بمباركة دينية، ويحتكر جميع القرارات السياسية والاقتصادية، ويتدخل في كل صغيرة وكبيرة.
خلالها عاش اليمن في عزلة شبه تامة عن العالم الخارجي، وافتقرت البلاد إلى الخدمات الأساسية كالتعليم والرعاية الصحية، مما أدى إلى انتشار الجهل والمرض والفقر.
تمثلت أهداف ثورة 26 سبتمبر في التحرر من الحكم الملكي الاستبدادي وبناء دولة حديثة قائمة على مبادئ الحرية، المساواة، والعدالة الاجتماعية. ومع إعلان قيام الجمهورية اليمنية، بدأت الدولة الجديدة في بناء مؤسساتها وتحديث البلاد، وبناء جيش وطني، وتطوير نظام تعليمي، وإطلاق مشروعات تنموية لتحسين البنية التحتية.
عن هذه المرحلة، قال الأكاديمي والمحلل السياسي، البروفيسور عبدالوهاب العوج، إن “ثورة 1962 لم تكن معزولة عن القوى الرجعية والإمامية التي حاولت الاستفادة من الصراعات القائمة حينذاك، لكن الانتصار جاء بعد تلاحم القوى الجمهورية في معركة السبعين يوماً”.
وأضاف البروفيسور العوج، لـ“بران برس”، أن هذه المعركة “شكلت مفترق طرق للجمهورية اليمنية الجديدة”.
من جانبه، يرى الباحث السياسي، عمرو سعد، أن “أبرز تحديات الثورة كان غياب الوعي الشعبي بأهميتها”.
وأضاف لـ“بران برس”، أن “الشعب اليمني عاش تحت سيطرة الأئمةـ الذين حولوا المجتمع إلى دمى فاقدة للأمل، مما جعل مهمة النخبة في إحداث التغيير أصعب بكثير.”
وحققت ثورة 26 سبتمبر العديد من الإنجازات، بما فيها تحسين الأوضاع الاجتماعية والسياسية، وبناء نظام تعليمي حديث وتوسيع فرص التعليم لتشمل مختلف فئات الشعب، مما ساهم في تقليل نسب الأمية.
وشهدت البلاد تحسنًا في الخدمات الصحية والبنية التحتية. إلا أن الجمهورية واجهت أيضًا تحديات كبيرة، منها الانقلابات السياسية والصراعات القبلية، بالإضافة إلى التدخلات الإقليمية والدولية.
وأوضح البروفيسور العوج، أن هذه التحديات كانت “نتيجة لمحاولات النظام الإمامي السابق التغلغل في أجهزة الدولة على مر السنين، حتى ظهر مجددًا في انقلاب 21 سبتمبر 2014.”
في التسعينيات، ظهرت جماعة الحوثي في شمال اليمن، كحركة دينية وسياسية، وتعود جذورها إلى المذهب الزيدي الذي يعتقد بفكرة “الحق الإلهي” في الحكم.
استغلت الجماعة الاضطرابات التي تلت الربيع العربي وتراجع سلطة الحكومة المركزية، لتجتاح العاصمة صنعاء في 21 سبتمبر/أيلول 2014، وتسيطر عليها لتبدأ بعدها فترة من الفوضى والحرب الأهلية.
وبرأي السياسي “عمرو سعد”، فإن “ما حدث في 21 سبتمبر 2014 كان إعادة إحياء للنظام الإمامي بطريقة جديدة. الحوثيون لا يؤمنون بالجمهورية ولا بالتعددية، بل يستغلون كل فرصة لإعادة تكريس نظامهم الطائفي”.
فيما يرى الأكاديمي العوج، أن “الهاشمية السياسية المتغلغلة في الدولة اليمنية على مدى السنوات الماضية استفادت من الخلافات بعد الثورات العربية للوصول إلى صنعاء”. وقال إن “الحوثيين يدعون محاربة التكفيريين، لكنهم في الحقيقة يحاربون كل القوى الوطنية”.
وقد أدى انقلاب الحوثيين إلى انهيار مؤسسات الدولة، وتفاقم الأزمات الاقتصادية، وتراجع الحريات العامة، حيث عمد الحوثيون إلى فرض سياسات طائفية واقتصادية تهدف إلى تعزيز نفوذهم.
وإقليميًا، تسببت سيطرة الحوثيين في زيادة التوترات بين السعودية وإيران. هذا الصراع أصبح جزءًا من الصراع الإقليمي الأوسع بين القوى الكبرى في المنطقة.
في ظل استمرار الصراع بين الجمهورية القائمة على إرادة الشعب والمشروع الحوثي الطائفي، يبقى اليمن في مفترق طرق.
ففي حين تمثل أهداف ومبادئ ثورة 26 سبتمبر أملًا لليمنيين في بناء دولة مدنية حديثة، يظل 21 سبتمبر علامة على تفاقم معاناة الشعب اليمني بسبب التطلعات الحوثية لإعادة الحكم الإمامي الذي ناضل اليمنيون عقودًا للتخلص منه.
وحول هذا، يرى السياسي “عمرو سعد”، أن “اليمن للأسف يتجه نحو دولة هشة تبنيها وتهدمها القوى الإقليمية والدولية. ما يُروج له من سلام ليس أكثر من تلفيق للأوضاع المأساوية التي يعيشها اليمن نتيجة الحرب”.
كرّست الجمهورية فكرة حق الشعب في الحكم، وليس لأي جهة دينية أو قبلية الحق في احتكار السلطة. وسعى النظام الجمهوري لبناء دولة تستند إلى المؤسسات المدنية والقانون، وتحقيق التنمية الاجتماعية والاقتصادية.
على النقيض، يسعى الحوثيون لإحياء الطائفية والسيطرة الدينية. يرتكز مشروعهم السياسي على حكم قلة من النخب الدينية وفق نظرية “الحق الإلهي” في الحكم، وهي ذات الأسس التي قاومها اليمنيون وأسقطوها خلال ثورة 26 سبتمبر.
كما أن الحوثيين يعتمدون القوة العسكرية لفرض إرادتهم بعيدًا عن إرادة الشعب أو القانون. وهو ما يفتح الباب واسعًا أمام صراع طويل لتحديد هويّة اليمن السياسية في المستقبل.