إن أعظم الأبطال هم أولئك الذين ارتبطت أسماؤهم بقضايا أوطانهم ارتباطاً وثيقاً ولا سيما في المنعطفات التاريخية المهمة في مسيرة النضال الوطني .
هؤلاء هم الذين نُسمّيهم أبطال التحولات العظيمة ومن هؤلاء في هذا العصر القائد البطل الشهيد عبدالرب الشدادي .
لقد وضع ذلك البطل نفسه في خانة البطولة منذ انخراطه في السلك العسكري فكم سمعنا عن مواقفه العظيمة وما سمعناه قليل جداً . ولا شك أن لديه مواقف مُشرّفة قبل أن ينخرط في السلك العسكري ولكننا لم نسمع عنها شيئاً ولا شك أن أهله وأقاربه وزملاءه وقبيلته تعرف عنه الكثير منذ طفولته .
ولو تتبَّعنا سيرة حياته لما استطاعت أن تحتويها عشرات الكتب فمثله تمتلئ حياته بالبطولات التي تستحق أن يُخلِّدها التاريخ .
ماذا أكتب وكيف أكتب ومن أين أبدأ ؟!
كيف السبيلُ إلى الذي في النفس من
معنىً ؟! أراني ما استطعتُ وصولا
أجدني أُكلّف قلمي فوق طاقته حين أضع سِنّتَه على السطر الأول ليكتب عن تلك الهامة الوطنية العظيمة .
لقد كتب القائد الشدادي سِيرته بالأفعال وما علينا إلا أن نكتبها بالأقوال .
دعونا نتحدث عن تلك السنوات الأخيرة لذلك القائد الفذ .
بعد الانقلاب المشؤوم للحوثيين السلاليين أدرك القائد الكبير أن تلك المرحلة هي مرحلة تحوُّل خطير جداً في تاريخ اليمن فاعتزم أن يكون هو القائد الأول لقيادة الجموع الجمهورية فتصدّر المعركة كما تصدرها من قبله الزبيري في مرحلة التحول الثوري .
كان لسان حال القائد الشدادي يقول :
علتْ بروحي همومُ الشعب وارتفعتْ
بها إلى فوق ما قد كنتُ أبغيهِ
وخوّلتني الملايين التي قُتِلتْ
حقَّ القصاص على الجلاد أُمضِيهِ
نعم لقد قُتِلت الملايين قتلاً معنوياً من أثر الصدمة حين رأوا صنعاء في قبضة مُخلَّفات الإمامة .
خرج القائد من صنعاء لأنه أدرك أنها لم تعد عاصمة اليمن بل صارت وكراً للسلاليين ومُنطَلقاً لهم لشن الحروب على المحافظات اليمنية كافة .
خرج القائد قائلاً بلسان الحال :
خرجنا من السجن شُمَّ الأنوف
كما تخرج الأُسدُ من غابِها
نمرُّ على شفراتِ السيوف
ونأتي المنية من بابها
ونعلم أنَّ القضا واقعٌ
وأن الأمور بأسبابِها
ستعلمُ أمتُنا أننا
رَكِبنا الخطوب حناناً بها
كان القائد الشدادي يدرك أن المعركة لن تكون سهلة ولن تكون متكافئة فهو أمام مليشيا استولت على مُقدَّرات دولة بأكملِها ولكنه كان يؤمن إيماناً عميقاً جداً أنه يُمثّل الإرادة الشعبية ويُمثّل الجيش أيضاً فظهر بزيّه العسكري يدعو الأحرار من الجيش ومن الشعب أن يقفوا صفاً واحداً لِيُوقِفوا المدَّ السلالي المدعوم من إيران ويدافعوا عن جمهوريتهم فلبّاه أحرار الجيش وأحرار الشعب وبدؤوا تحت قيادته بخَوض معركة التحرير .
كان هناك العديد من القيادات الشعبية والعسكرية ولكنّ تلك المرحلة اقتضت أن يكون هو القائد الأول لِما له من مكانة اجتماعية وعسكرية عظيمة .
أرادت المليشيا السلالية الخائنة أن تجعل المجتمع اليمني يذل ويخضع فدوّى في الآفاق صوت القائد الشدادي يقول :
سأمضي عنيداً فلا أنثني
وأحيا كريماً فلا أنحني
وأرفع نحو السما جبهتي
كما ارتفعت جبهةُ المؤمنِ
صار القائد الشدادي أملَ الشعب وصار بطلَهمُ الأول .
كان صوتُه الجمهوري يعصف بأصوات السلاليين حتى لا تكاد تُسمَع .
كان عملاقاً تقزّم أمامه السلاليون والخائفون جميعاً .
وكان في عينيه بريقٌ يملأ القلوب أملاً وشجاعةً وعزيمة .
كان يتواضع كثيراً حتى وصل إلى أعلى درجات العُلو .
قبل كل معركة كان يقول للجنود : " من أراد أن يقاتل فليقاتل ومن لم يُرد فسوف يصله مُرتّبُه إلى بيته " فكان الجنود يتدافعون إلى القتال كأنهم الأسود الضواري .. لم يكن قائداً فحسب بل كان أباً روحياً .
كان إذا أصدر أمراً أوّل من يُنفِّذ هذا الأمر .. ربما قِيل إن ذلك خطأً من المنظور العسكري ولكنّ تلك المرحلة كانت تقتضي أن يكون القائد في الصف الأول لأنّ القوة التي كان يمتلكها الصف الجمهوري تمثّلت في الرجال لا في السلاح فكان لا بُدَّ للقائد الشدادي أن يجعل العنصر البشري أكثر فعالية من السلاح الذي تمتلكه المليشيا .
لقد تحوّلت نفوسُ المقاتلين مع ذلك القائد إلى عواصف لا يقف في طريقها شيء .
كان يتحدث بهدوء فيصغي إليه الإنسان والأرض ولكنه إذا غضب كان صوتُه أشبهَ بزئير الأسد .
انتشر له مؤخراً مقطعٌ مُصوَّر وهو يتحدث إلى قناة تلفزيونية وهو في المعركة فرأى فرداً يتراجع فغضب غضباً شديداً وقال له :
اختبئ خلف صخرة ولا تتراجع إلى الخلف .
تأملوا هذه الكلمات جيداً ، إنها تُعبّر عن فلسفته العسكرية في المعركة باختصار :
على الجندي أثناء الهجوم أن يتحصن دون أن يتراجع .
كان القائد كأنما يُوزِّع نفسه في نفوس جنوده فيصبح كل واحد منهم قائداً .
كان مُستعداً أن يُضحِّي من أجل جنوده ولهذا كانوا مستعدين للتضحية من أجله .
إن القائد العظيم هو ذلك الذي يجعل للموت معنىً من معاني الحياة .
لم يكن يحُثُّ الجنود على الموت بل كان يحثُّهم على القتال من أجل الحياة فإذا استُشهِد مقاتلٌ منهم فموتُه حياة له وللشعب بأكمله .
كانت كل أقواله وأفعاله دروساً في العزة والكرامة والإباء والصمود والعزيمة .
ستظل صفحات الجبال والسهول والوديان والصحارى محتفظة بفصول ملاحمه الجمهورية العظيمة فإن الأرض لا تنسى أبطالها .
وبعد انتصارات أسطورية أراد القائد أن ينحوَ بالمعركة منحىً فاصلاً ، لقد قرر دخول صنعاء وكان هذا القرار لائقاً به فإن لم يتّخذه هو فمن سيتَّخذه إذن ؟!
واقترب منها كثيراً ثم ارتقى شهيداً بعد أن استروح نسماتها .
كأنه يقول لنا :
إذا لم أدخل صنعاء فقد عزمت على دخولها وأنتم تدخلونها ولن تستريح روحي حتى أسمع إيقاعات أقدامكم وهتافاتكم وأنتم تدخلونها من كل الجهات وحينها ستكون روحي تنظر إليكم من الأفق وأنا أُردِّد مبتسماً هامساً : هؤلاء هم أبطالي .