“يومًا تغنى في منافينا القدر.. لا بُد من صنعاء وإن طال السفر”.
ربما تكون تلك القصيدة، واحدة من أشهر قصائد شاعر اليمن الكبير الدكتور عبدالعزيز المقالح.. مع مرور الزمن تحول عنوان القصيدة إلى شعار يردده المثقفون في كل بقاع عالمنا العربي، وأنا هنا بدوري أردده مع بعض التعديل “لا بُد من الشعر وإن طال الغياب”، فإذا كانت القراءة غذاء العقل، فإن الشعر هو غذاء الروح بامتياز، فمهما غصنا في عوالمنا الافتراضية، ومهما سحرتنا مواقع التواصل الاجتماعي التي أصبحت تحاصرنا من كل جانب، فقد أثبتت التجربة أننا لن نستغني عن الشعر ولا عن القصيدة بكل أشكالها وألوانها المتنوعة.
ويبقى الشعر وسيلة من وسائل المقاومة والصمود في وجه التحديات والظروف التي يواجهها الإنسان، والوسيلة التلقائية لحفظ وتداول ثقافات وحضارات الشعوب إلى جانب باقي أنواع الفنون والآداب الأخرى، كما تظل للشعر مكانته الخاصة التي لا يمكن لأي فن آخر منافسته عليها، فالعديد من الأبيات الشعريّة صارت أمثالاً تُحكى في المواقف المناسبات، حيث يتميَّز الشعر بسرعة الانتشار والتداول، بعد أن أصبح بمثابة الذاكرة الباقية للإنسان مع اختلاف اللغات والأجناس.
فلا يزال الشعر رافدًا أساسيًّا في كتاباتنا ومواقفنا ومحاضراتنا وأحاديثنا اليومية؛ إما للاستشهاد بما حمله لنا الشعراء عبر العصور من حكم ومواقف، أو حتى لتبسيط وشرح وتفسير بعض الظواهر والقضايا المعقدة التي تواجهنا في حياتنا اليومية، فلم يمر يوم أو حتى لحظة إلا ونجد أنفسنا نعود إلى الشعر- قديمه وحديثه- لنغرف منه الحكم والعبر ونهتدي بما يحمله من حكايات ونصائح.
فقد أثبتت الحرب الصهيونية المسعورة التي شنّها الاحتلال الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني في غزة والضفة، عقب أحداث “طوفان الأقصى”، أن الشعر سلاح الكثير من الفلسطينيين العُزَّل لمواجهة الآلة الحربية الفتاكة، ففي غزة عثر رجال الإنقاذ وسط الركام على قصيدة كتبها أحد الشعراء قبل استشهاده بلحظات، بمناسبة حلول عيد الميلاد المجيد بعنوان: (لست بحاجة إلى نظارتك يا سانتا) المقصود هنا (سانتا كلوز) أو بابا نويل، يقول مطلع القصيدة: “هل ترى تلك السحابة السوداء هناك يا سانتا؟.. هناك كان طفل من غزة ينتظر هدية / ينتظر أن يخرج مع أبيه إلى منتزه الجندي المجهول/ أن يركب السيارة الصغيرة هناك/ أن يذهب إلى البحر/ يلعب مع الرمال والأمواج/ ويشتري كوب من الذرة/ ثم يعود إلى البيت لينام / تحت صوت الطائرة الزنانة / التي ظن أنها جزء من السماء وأصوات الكون؟”.. إلى آخر القصيدة التي شاءت الأقدار أن يموت صاحبها أو يستُشهد، لكن بقيت القصيدة حية نتبادلها نحن الأحياء، وهو ما يثبت بأن الشعر حقًا فن لا يموت!.
وسط كل ما تعيشه أمتنا العربية من صراعات واقتتال ودماء كان من الضروري أن يهرب الإنسان من كل هذه المشاهد القاتمة والأوضاع البائسة، إلى دوحة الشعر، وعندما يكون الشاعر سياسيًّا بالأساس؛ بل وزعيم قبلي من مأرب في شرق اليمن الصامد، هنا تكون الصورة قد اكتملت وتحققت الغاية من هذا الهروب، وأن الجلوس تحت هذه الدوحة يمنح الظمآن للشعر غايته في الاستمتاع بلحظات نادرة تنتزعه من همومه وتعزله عن كوابيس السياسة المفزعة.
فقد نجح الشاعر السياسي علوي الباشا باقتدار في أن يختطفني بعض الوقت مع ديوانه الجديد الذي بين أيدينا (جزيرة الشوق)، وذهب بي في جولة مفتوحة بين صحاري شرق اليمن القاحلة، متجولًا بين مرابع تلك المناطق والتنقل بانسيابية بين عادات وتقاليد أهل البادية التي تؤصِّل لحياة وقبائل أهل اليمن الأبيّ، الذي يعد مهدًا للحضارة العربية بما يتميز به من تقاليد وأعراف راسخة.
بسهولة وعبر عشرات القصائد القصيرة والموجزة، يمكنك التعرُّف على تلك العادات العربية الأصيلة، ففي قصيدة (جزيرة الشوق) التي تحمل اسم الديوان يقول الشاعر: (يا زائر الدار لا تؤذي أهاليها.. جزيرة الشوق تفدينا ونفديها)، فقد حرص الشاعر على أن تتضمن أغلب القصائد مشاهد ومواقف وحكمًا متوارثة بين الأجيال.. هذه المواقف تحمل بين ثناياها دستور حياة أغلب أهل اليمن، فلا تخلو قصيدة من ملمح يعكس شهامة وكرم البدوي ونجدته للغريب، ونصرته للضعيف، وتصديه للظلم ومواجهته لكل متكبر جبار!.
لم يغب عن الشاعر تعمُّد إبراز تلك الصفات الخفية لأهل البادية، فحياتهم ليست كلها خشونة وقسوة؛ بل فيها الكثير من الجوانب الرومانسية والعاطفية، وهذا ما تظهره قصائد الديوان الذي بين أيدينا، أن البدوي إنسان رقيق المشاعر مرهف الحس، ربما يكون أكثر تأثرًا من أي إنسان آخر، ففي قصيدة “حكاية عذابي” يقول الشاعر: “أنت البعيد القريب وصفحة كتابي.. في شاطئ الشوق ترسي بي مراكبها”.
وهنا نكتشف جوانب جديدة تعكس مدى رومانسية الشاعر وقدرته في التعبير عما يدور بداخله من أشواق ومشاعر صداقة، صافية، وهي صفات ربما تميز البدوي دون غيره، لأن البيئة القاسية التي تحيطه منذ ولادته تجعل منه شخصًا غير عادي، فيتفاعل مع محيطه يؤثر فيه ويتأثر به، خاصة أن الشاعر يعتز ببداوته ويفخر بها، ثم يصل إلى ذروة هذا التباهي في قصيدة “أنا بدوي”.
ويتنقل بنا الشاعر إلى أجواء الألم والحسرة على ما وصلت إليه أحوال اليمن من تمزق واقتتال وهو ما فتح الباب أمام دخول الغرباء بلا استئذان، فتحولت البلاد الهادئة المسالمة إلى ساحة للحرب والدمار، فيدفع أبناؤها الثمن غاليًا، بعد أن اضطر بعضهم إلى مغادرتها هربًا من جحيم القتال أو طلبًا للسلام والأمن بعد أن تسبَّب الصراع في ضياع الأمن وتبخر الاستقرار.
وتظل أحوال اليمن السياسية حاضرة في أغلب قصائد الديوان، ففي قصيدة “قضية كبيرة”، نلمس خلالها حضورًا طاغيًا للمشهد السياسي المعقد في اليمن، فيقول (أتعبتنا المراحل وأوجعتنا الشفوف وأثقلتنا طموح محققين الهدف)، ولا يتوقف الشاعر عن إطلاق نداءاته لأبناء وطنه من السياسيين وغيرهم بضرورة تنحية الخلافات جانبًا ودعوتهم إلى الجلوس على مائدة المفاوضات وأن يقدم كل طرف بعض التنازلات حتى يتوقف الصراع ويعود للوطن أمنه وسلامه.