جاء وفدٌ من " غطفان" الى "يثرب" فقال عمر بن الخطاب : يا معشر غطفان من الذي يقول :
إلاّ سليمان إذ قال الإله له:
قُم في البريّة واحددها عن الفَنَدِ
وخيّس الجن إني قد أذنت لهم
يبنون تدمر بالصُفّاح والعَمَدِ
قالوا : النابغة.
فقال عمر: ذلك أشعر العرب.
النابغة من "ذبيان" الغطفانية وكان شاعر بلاط متفوقاً. وهو أحد شعراء الطبقة الأولى المقدمين على سائر الشعراء.
عدّه بن سلاّم بعد امرئ القيس وقبل زهير والأعشى اما عمر فاعتبره شاعر العرب الأول.
قام رجل الى ابن عباس إذ كان عاملاً لعلي بن ابي طالب على البصرة وقال: أيُّ الناس أشعر !
فقال ابن عباس: أخبره يا أبا الأسود الدؤلي.
قال الذي يقول:
فإنك كالليل الذي هو مدركي
وإن خِلتُ أنّ المنتأى عنك واسعُ
ومن يقرأ ديوان النابغة الذبياني فإنه لا يملك الاّ التسليم بهذه الحقيقة مع حِيرة بين أيهما افضل : النابغة ام زهير.
ولئن اقترب النُقّاد من وضع الإجماع وقدموا امرؤ القيس استناداً الى معلقته الشهيرة فإن تشككات طه حسين في كتابه " الادب الجاهلي" أضعفت هذا الاتجاه بتراكم الحجج التي ساقها إذ يرى حركة الشعر الجاهلي ومداراته قد انحصرت فقط في إطار القبائل المضرية وجاء الاسلام فتوجها بالقرآن ـ حد تعبيره.
كان الحج مهرجاناً عظيماً تبدأه العرب من سوق عكاظ وكان الشعر والتجارة احدى مقاصده.
يبدأ سوق عكاظ في اول يوم من شهر ذي القعدة الى 20 منه ثم تسير الناس و البصائع والشعراء باتجاه مكه الى سوق "مجنة" فيكملون العشرة الايام من ذي القعدة وبعدها ينتقلون الى سوق " ذي مجاز" في ارض " هذيل" يقضون ثمانية ايام من ذي الحجة ـ على مقربة من مكةـ ثم يختمون بالحج الذي يبدأ في آخر يوم من ايام السوق 8 ذي الحجة وقد سمي ذي مجاز لانه الذي يجيز الحج.
وهكذا : ينتهي الناس الى الطواف فتتوزع البضاعة على ثلاثة اسواق: مكة ومنى وعرفات. واما أجود القصائد فتُعلق على الكعبة.
كان سوق " عكاظ" معرضاً تجارياً وأدبياً بالدرجة الأولى ويقع في ارض " عدوان" و"هوازن" المضريتان. وفيه يتبارى الشعراء لحصد الجوائز.
كان النابغة الذبياني حكماً بين الشعراء فهو الذي يجيز أشعرهم ويحكم بأفضلية الجائزة التي كانت تقدمها قريش أو ملوك الغساسنة.
كانت تضرب له قبة من أدَم وسط سوق عكاظ ويأتيه الشعراء بقصائدهم.
دخل حسان بن ثابت الخزرجي والخنساء على النابغة الذبياني وهو داخل خيمته في سوق عكاظ وبجواره الأعشى الشاعر المعروف بأبي بصير فأنشدت الخنساء القصيدة المعروفة التي مطلعها :
قِذىً بعينيك أم بالعين عُوّارُ
أم ذرّفت إذ خلت من أهلها الدارً
وواصلت حتى انتهت الى:
وإن صخراً لتأتمَ الهُداة به
كأنه علمٌ في رأسه نارُ
فاهتز النابغة وقال:
لولا ان ابا بصير ( الاعشى) أنشدني قبلكِ لقلت: إنكِ أشعر الناس. أنت أشعر من كل ذات مثانة ( أي أشعر النساء).
قالت الخنساء: ومن كل ذي خصيتين.
فانتفض حسان بن ثابت وقال:
انا اشعر منك ومن أبيك ومنها.
قال النابغة: حيث تقول ماذا !
قال حسان:
لنا الجفنات الغُرُّ يلمعن بالضحى
وأسيافنا يقطرنَّ من نجدةٍ دما
ولدنا بني العنقاء وابني مُحرّقٍ
فأكرم بنا خالاً وأكرم بنا ابنما
قال النابغة:
انك لشاعر لولا انك قللت عدد جفانك وسيوفك وفخرت بمن ولدت ولم تفخر بمن ولدك.
وقيل ان النابغة قال: انك قلت الجفنات فقللتها ولم تقل الجفان
وقلت : يلمعن في الضحى ولو قلت: يبرقن بالدجى لكان ابلغ في المديح لأن الضيف بالليل أكثر طروقاً. فقام حسان منكسراً.
هذا النقد الرفيع يتناسب مع سمو ذلك العصر ويدل على نقاء كلام النابغة وكفاءته. النابغة الذبياني شاعر الملوك المتأرجح بين العراق والشام وبين البادية والحضر.
يقول عمر بن الخطاب ان الشعر كان علم العرب ولم يكن لها علمٌ أصح منه " حتى جاء الإسلام فتشاغلت عنه العرب.. ".
كان النابغة الذبياني صديقاً للنعمان بن المنذر ملك الحيرة ينادمه ويمدحه ويجالسه ولا ينفك عنه. وكان ذلك محط حسد وغيرة بعض حاشية الملك ولا سيما ابنا عوف بن قريع والشاعر المعروف المنخل اليشكري. وكان الأخير شاعراً هيّاماً بنساء القصر على علاقة بـ" المتجردة" زوجة النعمان فتوافق الثلاثة على ضرب علاقة الملك بالنابغة وكاد ان يلقى حتفه بسبب قصيدة قالها في المتجردة على طلبٍ من الملك توغل النابغة في وصف تفاصيلها فغار منه المنخل اليشكري وقال للنعمان لا يقول هذه التفاصيل الا رجل "جرّب" :
كالأقحوان غداة غب سمائهِ
جفّت أعاليه وأسفله ندي
زعم الهمام بأن فاها باردٌ
عذبٌ مقَبَّله شهي الموردِ
ويستوغل في الوصف:
فإذا لمست لمستَ أجثم جاثماً
متحيزاً بمكانه ملئ اليدِ
وإذا طعنت طعنت في مستهدفٍ
رابي المجسةِ بالعبير مُقَرمدِ
وإذا نزعت نزعت من مستحصفٍ
نزع الحزوّر بالرشاء المحصدِ
وإذا يعضّ تشدّه أعضاؤهُ
عضّ الكبير من الرجال الأدردِ
ويكاد ينزعُ جلد من يصلى به
بلوافحٍ مثل السعير المُوقدِ
انفرد المنخل اليشكري بالملك وقال له ان هذه الاوصاف الدقيقة في تفاصيلها لا يقولها إلا مجرب. فحقد النعمان على النابغة لكن صديق للنابغة كان حاضر اسرع الى النابغة واخبره ان النعمان توعده بالموت فليحذر من القدوم عليه ونصحه بالرحيل.
اضطربت العلاقة بين النابغة والملك. وتضايق النابغة فانطلق الى ملوك الشام الغساسنة خصوم النعمان بن المنذر الذين قتلوا اجداده الملوك: عمرو بن هند في يوم حليمة وابن ماء السماء قبله.
قال النابغة في ملوك الشام قصائد عدة لكن اشهرها تلك التي مدح فيها عمرو بن الحارث الاصغر حال وصوله هارباً من العراق يصف فيه حالة الذعر التي عاشها قبل الوصول اليهم:
كِلِيني بهم يا أميمة ناصبِ
وليلٍ أُقاسيهِ بطيء الكواكبِ
تطاول حتى قلت ليس بمنقضٍ
وليس الذي يرعى النحوم بآئبِ
وصدرٍ أراح الليل عازب همّه
تضاعف فيه الحزنُ من كل جانبِ
عليَّ لعمرو نعمةٍ بعد نعمةٍ
لوالدهِ ليست بذات عقاربٍ
حلفتُ يميناً غير ذي مثنويةٍ
ولا علم إلا حسن ظنّ بصاحبِ
إلى ان يقول وهو يمدح اجداد الغساسنة وقومهم الشجعان:
إذا ما غزو بالجيش حلّق فوقهم
عصائب طيرٍ تهتدي بعصائبِ
........
إدا استُنزلوا عنهن للطعن أرقلوا
إلى الموت إرقال الجِمال المصاعبِ
فهم يتساقَون المنية بينهم
بأيديهمُ بيضٌ رقاق المضاربِ
ولا عيب فيهم غير ان سيوفهم
بهن فُلولٌ من قِراع الكتائبِ
تُورّثن من أزمان يوم حليمة
إلى اليوم قد جُرّبن كل التجارب
......
لهم شيمةٌ لم يعطها الله غيرهم
من الجود والأحلام غير عوازبِ
محلتهم ذات الإله ودينهم
قويمٌ فما يرجون غير العواقبِ
رقاق النعال طيبٌ حجُزاتهم
يُحيّون بالريخان يوم السباسبٍ