اليمن، البلد الذي أنهكته الحرب والنزاعات المسلحة جراء الانقلاب على الشرعية، يواجه واحدة من أخطر الأزمات الإنسانية في العالم، حيث تنتشر الألغام الأرضية بكثافة في مناطق واسعة من البلاد. هذه الألغام، التي زُرعت خلال سنوات الصراع المستمرة منذ عام 2014 وما قبلها بشكل اقل ، أصبحت كابوساً دائماً يطارد حياة اليمنيين، ويحول أرضهم إلى ساحة موت لا تنتهي. مع وجود قرابة الـ 2 مليون لغم أرضي، أصبح اليمن من أكثر البلدان تضرراً من الألغام على مستوى العالم، وتسبب ذلك في معاناة مستمرة لآلاف المدنيين الذين يفقدون حياتهم أو يُصابون بإعاقات دائمة.
تعود مسؤولية زراعة الألغام في اليمن بشكل رئيسي إلى مليشيات الحوثي، التي استخدمت الألغام كوسيلة لتعزيز سيطرتها على الأراضي والمناطق الحيوية، بالإضافة إلى تعطيل تقدم القوات الحكومية والتحالف العربي. الألغام لم تُزرع فقط في المناطق العسكرية أو الحدودية، بل امتدت إلى المناطق السكنية، المزارع، الطرق، وحتى المدارس والمرافق العامة والسواحل ، هذا الاستخدام الواسع للألغام في المناطق المدنية جعل من اليمن أرضًا محاطة بالخطر المستمر.
وفقًا لتقارير منظمات حقوق الإنسان وبرامج إزالة الألغام الدولية، يُقدر أن اليمن يحتوي على أكثر من 2 مليون لغم أرضي، تم زرعها في مناطق متعددة خلال سنوات الحرب. الألغام التي زُرعت بشكل عشوائي دون أي خرائط موثوقة تجعل من عملية إزالتها تحدياً كبيراً. على الرغم من جهود العديد من المنظمات الإنسانية والدولية، بما في ذلك مشروع مسام السعودي لإزالة الألغام، إلا أن حجم الأراضي الملوثة بالألغام يجعل من الصعب توقع الوقت الذي يمكن فيه تطهير اليمن بالكامل.
تشير التقديرات إلى أن الألغام في اليمن تسببت في وفاة أكثر من 10000 شخص منذ بداية الحرب في عام 2014، بينهم عدد كبير من النساء والأطفال. كما أن هذه الألغام تسببت في إصابات خطيرة لآلاف الأشخاص، الذين يعانون من إعاقات دائمة، مثل فقدان الأطراف. الإصابات الناتجة عن الألغام لا تؤدي فقط إلى الألم الجسدي والنفسي، بل تفرض أيضاً تحديات اقتصادية واجتماعية هائلة على الأفراد والأسر المتضررة، حيث يجد العديد من المصابين أنفسهم عاجزين عن العمل أو العودة إلى حياتهم الطبيعية.
الإصابات الناتجة عن الألغام خلقت شريحة كبيرة من المعاقين في اليمن، تقدر بالآلاف. فقدان الأطراف هو الإصابات الأكثر شيوعاً بين ضحايا الألغام، حيث يُجبر العديد من المصابين على استخدام الأطراف الصناعية التي غالبًا ما تكون غير متوفرة بسهولة في اليمن بسبب نقص الموارد الطبية والخدمات الصحية. الأطفال يشكلون نسبة كبيرة من ضحايا الألغام، حيث تؤدي الإصابات إلى إعاقات جسدية طويلة الأمد، تمنعهم من متابعة حياتهم الطبيعية أو الحصول على التعليم.
هذه الشريحة الكبيرة من المعاقين تُضاف إلى الأزمة الإنسانية في اليمن، حيث تعاني البلاد من انهيار كامل في الخدمات الصحية والبنية التحتية الطبية. المستشفيات والمراكز الصحية غير قادرة على تقديم الرعاية الكافية للعدد المتزايد من المصابين، وهو ما يفاقم معاناة هؤلاء الأفراد وأسرهم. كما أن عدم توفر الرعاية النفسية يجعل من الصعب على ضحايا الألغام التغلب على الصدمة النفسية التي يعانون منها بعد الإصابات.
تتنوع الألغام المزروعة في اليمن بين الألغام المضادة للأفراد والألغام المضادة للدروع. الألغام المضادة للأفراد تعتبر الأكثر فتكاً بالمدنيين، حيث تتسبب في إصابات مباشرة عند لمسها أو المرور بالقرب منها. هذه الألغام قد تكون مخبأة في أماكن يصعب اكتشافها، مثل الطرق الترابية أو المزارع أو حتى المباني المهجورة. الألغام المضادة للدروع تُستخدم لتدمير المركبات العسكرية، ولكنها أيضًا تؤدي إلى قتل أو إصابة المدنيين عندما تنفجر تحت السيارات العادية أو الشاحنات التي يستخدمها السكان المحليون.
مصدر الألغام المستخدمة في اليمن يأتي بشكل رئيسي من المخزونات القديمة التي كانت تحتفظ بها الحكومة اليمنية قبل اندلاع الحرب، بالإضافة إلى الإمدادات الجديدة التي حصلت عليها مليشيات الحوثي من حلفائها الخارجيين وفي مقدمتهم إيران التي زوّدتهم بتكنولوجيا صناعة الألغام. كما أن الحوثيين تمكنوا من تطوير قدراتهم المحلية في تصنيع الألغام، حيث يتم إنتاج ألغام محلية الصنع بأشكال مبتكرة وغير تقليدية، مما يزيد من صعوبة اكتشافها وإزالتها.
إلى جانب الألغام التقليدية، هناك تقارير عن استخدام الحوثيين لعبوات ناسفة محلية الصنع يتم تفخيخها لتكون أشبه بالألغام، وتُستخدم في استهداف القوات العسكرية والمدنيين على حد سواء. هذه العبوات تُزرع في الطرق والأماكن العامة، ما يجعل من الصعب على المدنيين التنبؤ بوجودها أو تجنبها.
رغم ضخامة الكارثة، هناك جهود متواصلة من قبل المجتمع الدولي والمنظمات المحلية لإزالة الألغام والتخفيف من آثارها. مشروع مسام الذي تموله المملكة العربية السعودية، يُعد من أبرز البرامج العاملة في اليمن، حيث يهدف إلى إزالة الألغام وتأمين المناطق السكنية والطرق. منذ إطلاق المشروع، تمكن مسام من إزالة مئات الآلاف من الألغام والعبوات الناسفة في مختلف مناطق اليمن، مما ساهم في تقليل عدد الضحايا.
كذلك برنامج الأمم المتحدة لإزالة الألغام بشكل اقل يعمل أيضاً على تقديم المساعدة الفنية والتدريب للعاملين في مجال إزالة الألغام، بالإضافة إلى توعية المجتمعات المحلية بمخاطر الألغام وكيفية تجنبها. ومع ذلك، فإن حجم التحدي لا يزال كبيرًا، حيث أن زراعة الألغام لم تتوقف بعد، وما زالت الأراضي اليمنية تتعرض للتلوث المستمر بهذه الأدوات القاتلة.
في ظل استمرار الانقلاب المشؤوم على الشرعية في اليمن، يبدو أن كارثة الألغام لن تنتهي في المستقبل القريب. استمرار مليشيات الحوثي في زراعة الألغام، دون أي اعتبار للحياة المدنية، يُهدد بتحويل اليمن إلى واحدة من أخطر المناطق على مستوى العالم بالنسبة للمدنيين. حتى إذا انتهت الحرب، فإن تأثير الألغام سيظل مستمرًا لعقود قادمة، حيث تحتاج اليمن إلى سنوات طويلة لتطهير أراضيها من هذه الأدوات القاتلة.
التحدي الأكبر الذي يواجه اليمن هو توفير الدعم اللازم لإعادة تأهيل ضحايا الألغام، وضمان أن يتلقوا الرعاية الصحية والنفسية اللازمة للعودة إلى حياتهم. كما يجب على المجتمع الدولي تكثيف جهوده لفرض ضغوط أكبر على الأطراف المتورطة في زراعة الألغام، بما في ذلك مليشيات الحوثي، وإجبارهم على وقف استخدام هذه الأسلحة غير الإنسانية.
ختاما …الألغام في اليمن ليست مجرد أدوات قتل خفية، بل هي رمز للكارثة الإنسانية الأوسع التي يعيشها هذا البلد. آلاف اليمنيين يعيشون في رعب يومي، محاطين بأرض تحولت إلى فخ قاتل. إنها مأساة تتطلب تدخلاً عالمياً أكبر لإيقاف هذه الجرائم وضمان مستقبل أفضل للضحايا الأبرياء.