كان ذلك شتاءً لا يشبه غيره. صنعاء الملبدة بالضباب تغرق تحت عباءة ثقيلة من الترقب والخديعة، حيث بدا الاتفاق السياسي بين ميليشيا الخوثي الإرهابية وحزب مؤتمر صنعاء بمثابة لوحة مهشّمة، أُجبر كلا الطرفين على التظاهر بأنها تمثل شراكة. بدا الزعيم الشهيد علي عبد الله صالح محاصرًا بين جبهتين: الأولى، ميليشيا مسلحة تحمل مشروعًا عنصريًا مسنودًا بتغول هاشمي لا يعرف سوى التسلط. الثانية، قيادة حزبه التي علقت أملًا واهيًا على فكرة بناء دولة مع جماعة تمقت مفهوم الدولة من أساسه. في الأفق، كانت حكومة الشرعية تطرق أبواب صنعاء، تتقدم بخطى ثابتة نحو المطار وأرحب، تاركة الميليشيا بين سندان العدو ومطرقة الخيانة.
في أروقة المفاوضات، جلس أبو مالك يوسف الفيشي، مبعوث عبد الملك طباطبا الخوثي، مرتديًا عباءة الوسيط. قال للزعيم: "الاتفاق سيُنفذ فور تشكيل الحكومة. التعيينات العسكرية والأمنية قادمة، وأعدكم بأنني سأعلن شخصيًا إذا خلفنا الوعد." كان الحديث مغلفًا بلغة الخديعة، بينما تحت الطاولة كان الخوثيون يعيدون تشكيل قواعد اللعبة لصالحهم. في إحدى الجلسات المغلقة، قال الزعيم بحزم: "لا تظنوا أننا نطلب هذه المناصب لننقلب عليكم، بل لإعادة بناء المؤسسات. إن أردتم الاستئثار بها، فلتأخذوها، لكن أوقفوا انهيار الدولة."
تشكّلت حكومة الانقلاب أخيرًا، لكن التعيينات التي وُعد بها المؤتمر ذابت في الهواء. عبد الخالق الخوثي، الذي طُرح اسمه لقيادة القوات الخاصة، استحوذ أيضًا على معسكر "48" بعد أن صممت الميليشيا منصبًا هلاميًا أطلقوا عليه "قائد جبهة صرواح"، ليصبح عبد الخالق مشرفًا عامًا على الجبهتين. سقط وجه أبو مالك الفيشي كما أرادوا، ووجد نفسه متهمًا بالخيانة داخل جماعته، بينما غادر صالح الصماد المشهد مدعيًا الغضب، ليمضي وقته في صعدة حيث يُدار كل شيء.
في هذه الأثناء، حاول الزعيم صالح تخفيف التوتر بسحب اسم طارق محمد عبد الله صالح من قائمة التعيينات مرارًا، مقترحًا بدائل مثل مهدي مقوله وعبد الله قيران. لكن ميليشيا إيران في اليمن كانت تتلاعب بمصير كل شخصيات المؤتمر، ما جعل الزعيم يصفهم قائلًا: "جماعة إذا ارتفع حجر، سقط آخر. اتفاق مع واحد، وكذب الثاني."
طارق محمد عبد الله صالح، الذي كان يرى في الجيش رمزًا للدولة، حاول بناء تفاهمات مع مختلف قيادات الميليشيا، من عبد الكريم الخوثي إلى صالح الصماد، حتى وصل إلى أبو علي الحاكم ومهدي المشاط. كلما أبدى مرونة، وجد في المقابل تعنتًا. في نهاية المطاف، أغلقوا كل الأبواب أمامه. فقرر أن يبدأ من جديد، وأسس معسكرًا أطلق عليه اسم "حسن الملصي"، مستقطبًا كل ضابط أو جندي أُقصي من الجبهات بسبب سياسات الميليشيا.
في اجتماع حاسم مع قادة المعسكر الجديد، قال طارق: "إذا لم يريدوا جيشًا، فلنكن مليشيات تنافس مليشياتهم. ليشرفوا علينا كما يشرفون على أتباعهم، وسنرى من يملك القوة." لم تكن هذه الكلمات سوى بداية لتحدٍ قلب موازين المعادلة، حيث بدأ المعسكر يجذب الجنود والضباط الذين ضاقوا بتسلط الخوثيين.
على الساحل الغربي، في تلك اللحظة التي تشظّت فيها جدران الصمت، كان الانهيار يتسلل بين أروقة جبهات الخوثيين كخيط دخانٍ رمادي. الحكومة بدأت تمسك بزمام المبادرة، فيما تراجع الآخرون إلى خنادق المراوغة. وسط ذلك الضجيج، ظهر صالح الصماد أمام علي عبدالله صالح، محاولًا إحياء وعودٍ قديمة. وجهه حمل ملامح المساومة، عيناه تتحدثان بلغة المكر، وصوته كان أشبه بمشهد تمثيلي مفتعل.
اقترب من الزعيم بتلك الجملة التي يعرفها الجميع، مشيرًا بنبرته القبلية: "شخطة وجه!" العبارة لم تترك أثرًا يُذكر، سوى ضحكات مكتومة من الحاضرين. جلس العقلاء في المجلس، يتبادلون نظرات ساخرة، يقرأون على ملامح ذلك الوجه إصرارًا مستميتًا على إحياء مسرحية مكررة.
الزعيم، بشموخه المعتاد، قطع حبل الوهم:
"من يأتي إلى الميدان، يأتي ليقاتل لأجل دولة، سلطة، لا شعارات خاوية. اتركوا وزارة الدفاع تعمل بلا قيود، أفسحوا المجال لإعادة بناء الجيش. الأطفال الذين يلقون بهم في الجبهات، ما ذنبهم؟ الشعب يحتاج جيشًا للدولة، لا قطيعًا لجماعة."
أمام ذلك الوضوح، لم يجد الصماد سوى كلمات واهية للدفاع عن موقفه. حاول أن يظهر بمظهر الوسيط بين الدولة والجماعة، متحدثًا بنبرة الواعظ:
"الجماعة بحاجة لفهم أن الدولة وحدها هي الضامن الحقيقي. لا يمكن لأي مجموعة أن تملأ فراغها."
لكن الرسائل التي كان يرسلها سرًا حملت نبرة مختلفة تمامًا. في واحدة منها، تحدث عن عبد الخالق الحوثي، ومحمد عبدالسلام، وحمزة الحوثي بوصفٍ ساخر، مشيرًا إليهم كأكبر عقبة أمام أي شراكة حقيقية. أرسل للزعيم:
"هؤلاء السفهاء يعرقلون كل خطوة للأمام. اثنان منهم لا أتواصل معهما الآن، والثالث سأرفعه لمكتب السيد قريبًا."
كلمات لم تكن سوى انعكاسٍ لانقسام مفتعل داخل الجماعة، انقسام كان الهدف منه خلق وهم الشراكة، بينما استمرّت يدٌ خفية في إحكام القبضة على مفاصل السلطة.
عندما تعهّد الصماد بتعيينات عسكرية وأمنية تضمن توازنًا في إدارة دولة الإنقلاب، بدا وكأن الحبال قد بدأت تُشدّ لصالح الزعيم. طلب مقابل ذلك دعمًا لتجهيز المقاتلين على الجبهات. شهرٌ آخر مرّ، ثم عاد ذات الحديث المعتاد، لكن بنبرة أشد حدة. تلك الأصوات التي هتفت يومًا للجيش الوطني، عادت لترفع شعار "قيادة من غير - أنصار الله - تشكل خطرًا على الأمن."
في تلك اللحظة، لم يعد وجه الصماد يحمل سوى آثار خيبة معلقة في الهواء. الوعود التي قدمها تحولت إلى ضبابٍ يتلاشى عند أول اختبار. الزعيم، برغم كل الصراعات الداخلية التي تحيط به، أدار المجلس بنبرة صارمة:
"الكلمات لن تبني جيشًا. الشراكة لا تكون بين المتناقضات. إما أن تكونوا دولة، أو تصبحوا ظلًا عابرًا."
تردّد صدى كلماته في المجلس، لكنه لم يجد سوى صمتٍ مطبق. الحاضرون، كلٌّ منهم كان يغرق في قراءة سيناريو المسرحية المتكررة. مشهد وراء آخر، وجوه متبدّلة، حوارات بلا نهاية. كل شيء كان أشبه برقصة على حافة الهاوية.
في ديسمبر 2017، وبينما كانت الميليشيا تُخطط لاحتلال منزل طارق في حي الجزائر بصنعاء، كان طارق يرسم خطوط المواجهة في الساحل الغربي. جمع 600 مقاتل، ووضع خططًا دقيقة لتحرير تلك المناطق الاستراتيجية. في الوقت نفسه، كان الزعيم يحاول التمسك بخيوط الاتفاق السياسي الهشة، رغم يقينه بأن الميليشيا لن تتخلى عن مشروعها الطائفي، لم يكن مُقدرًا للعميد طارق أن يؤذي جبهة الساحل الغربي، لأن الله تعالى كان يُدبر له أمرًا أفضل من هذا بكثير، أن يكون هو قائد جبهة الساحل في مواجهة عملاء إيران الخبثاء.
أحد الصحافيين المقربين من الزعيم سأله عن سر استهداف الميليشيا لطارق، فأجاب: "لا يريدون أحدًا يُذكرهم بجيش الدولة. كلما عاد اسم طارق، شعروا بأن وجودهم مهدد." هذه العبارة لخصت كل شيء؛ الميليشيا كانت تخشى من فكرة الدولة أكثر من أي شيء آخر.
في اليوم الثاني من ديسمبر 2017، اندلعت شرارة الانتفاضة. ميليشيا الخوثي العنصرية أظهرت وجهها الحقيقي، وبدأت حملة تصفيات واعتقالات طالت قيادات المؤتمر. الزعيم، الذي حاول الحفاظ على الاتفاق السياسي حتى اللحظة الأخيرة، وجد نفسه وحيدًا في مواجهة عدو لا يعترف إلا بالدماء.
انتفاضة ديسمبر 2017 لم تكن مجرد مواجهة سياسية، بل لحظة تاريخية كشفت فيها الميليشيا عن وجهها الحقيقي. تغول إيراني عنصري دعم مشروعًا طائفيًا، حوّل الجيش إلى أداة بلا روح. الزعيم وطارق، رغم كل محاولاتهما، لم يتمكنا من إنقاذ ما تبقى. لكن صرختهما ستظل شاهدة على ثمن الخيانة والتساهل مع ميليشيا لا ترى في بقايا دولة صنعاء سوى عدو يجب القضاء عليه.
كل تفصيل كان جزءًا من ملحمة كتبت بالدم والدموع، وستظل انتفاضة ديسمبر عنوانًا للصراع بين الأحزاب والسياسة من جهة، والمشروع الطائفي الذي حاول تدميرها من جهة أخرى.
*الآراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن السياسة التحريرية لمؤسسة برّان الإعلامية