تنفض "مارب" عن كتفيها غبار السنين، ترتدي ثوبها البنيّ المشقق المُطرز بالشمس، وتخرج لتقاتل نيابة عن وطن فقد ملامحه. ليست مجرد مدينة، بل جرح مفتوح يعلن نفسه للعالم. نبتت من قسوة الرمل واستقامت مثل رمح يعترض خريطة الخراب. ظنّوها رُبع أرض، رُبع حلم، ورُبع صرخة تائهة في مهبّ الريح. ما عرفوا أن ربع الكرامة قد يتحوّل إلى عاصفة لا تهدأ، حيث الرمل يُشعل نيرانًا لا يطفئها الغدر، وحيث الرصاص يسابق الكلمة ليكتب التاريخ.
من بعيد، تهمس الريح: "كامل الخوداني عاد من الموت"، وعلى سرير المستشفى امتدت حياة، نفضت عنها غبار الرصاص وارتفعت لتشهد أن مأرب لا تُهزم. اغتالتهم دهشة النجاة؛ فالقاتل قد ينجح في إصابة الجسد لكنه يفشل دومًا في كسر الأرواح التي تسكن الصحراء. رجل خرج، ورصاصتهم عادت صفر اليدين. مأرب حمت ابنها وابتلعت الغدر.
هنا، تنزلق أساطير الغزاة لتُدفن، وتنصت الأرض لرواية لم تكتمل بعد.
• "مأرب لم تسقط"،
• "لا تتعجلوا الحكم، الانتظار طويل".
الرد يأتي من الساحات، من البنادق المرفوعة نحو غيمات الشرود. قيل إن الأرض ضيقة، وإن المدينة محاصرة. قيل إن رُبعها فقط لا يزال صامدًا. إلا أن الرُبع صار حدودًا لعالم آخر؛ عالم تذوب عنده فوارق النسب والقبيلة والطائفة، حيث يقف الرجال متكئين على الغضب. أرهقت مأرب كواهلهم، زرعت الرعب في عيونهم. أرتال تترنح في الظلام، سُحب هاربة من إيران، وحشود أُرسلت من العراق، وأشباح نبتت من الجنوب اللبناني، كلها تجر خطى الخيبة حين تقابل الكرامة.
تُراقب المدينة رجالها، تبحث في الأفق عن فارس يتقدّم ليقول الحقيقة، وما من صوت يعلو فوق صوت شيخها وحكيمها "سلطان العرادة". الحُكم ليس بالأسلحة وحدها، فالرجل هو الكلمة التي تقف بين الناس مثل طود، هيبة تكسر الصمت وتُعيد رسم المعركة بعيدًا عن حناجر المرتزقة. العرادة، شمس تتأهب للنطق؛ فمن مأرب يصعد الكلام كطلقة، ويصمت الخونة على أطرافها، مكتفين بأصوات خافتة تتوارى خلف ستائر الخذلان.
مدينة ليست عربة تائهة تجوب الصحراء بحثًا عن منفذ. ليست ساحة يتسابق فيها الغادرون ويعودون أبطالًا في أحلامهم البائسة. ما مرّ من هنا ارتطم بقبضة الصدق، وارتدّ خاسرًا. تُعلن مأرب رفضها للانقسام، تُطالب بإحياء الشرايين المقطوعة، تفتح الطرق للروح كي تهرب من أقبية الموت في صنعاء. لا حواجز، لا كانتونات، لا حدود مغلقة بين الدم الواحد.
الطريق يبدأ من مأرب، يعبر تعز، يمرّ بعدن، يُحيي الضالع ويُكمل مسيره إلى الصدر المُثقل في صعدة. مدن ليست مجرد أسماء، بل حناجر ترفع نشيد الخلاص. هنا تنزلق أسلحة الخوثيين إلى التراب، وهنا تُطرد أشباح تتوهم أنها تُسيطر. صنعاء، مدينة تشيخ ببطء، تتحلل كل يوم بوجه لا يعرف إلا الحُزن.
ومع كل طلقة تُوجّه نحو مأرب، ينادي السؤال:
• "من المقصر؟"
• "أي يد تركت الباب مواربًا للغدر؟"
لا تبرير لخيبة، ولا عذر لكذبة اسمها "مجتمع قبلي لا يحكمه القانون". القبيلة بُنيت على الشرف، ترفض الغدر، تلفظ الغدارين. أما القانون، فسيف ينزل على الجميع بلا تمييز. تلك القيادات التي تتكئ على الفشل تُحوّل الحياة إلى مساحات رمادية تغيب فيها العدالة. لا أمطار من حبر، لا بيانات من ورق، بل حساب عسير يُعيد للمكان هيبته، ويُسلّم القتلة إلى يد لا ترحم.
مدينة ترفض أن يُسرق اسمها، أو يُشوّه وجهها بأيدٍ مرتجفة.
• "هنا مأرب".
• "قِبلة النجاة، وصوت يعلو فوق الغبار".
تُردد الأرض الحكاية بلا ملل، عن أبطال يسكنون بين رمالها وأشجارها. تُخبر التاريخ أن العدالة لا تُشترى، وأن الدماء لا تُهدَر هباءً. من يعتقد أن الحرب مجرّد طلقات، لم يقرأ عن مأرب. الحرب، هي روح تستقيم على حافة الكرامة، لا تتراجع مهما اشتد الظلام.
في الختام، لكل مدينة أبطالها، وأعداؤها، وجُرح يتّسع ليُصبح وطنًا. مأرب تكتب بقلبها تاريخًا جديدًا، تُزيح الغبار عن أعين العالم، وتقول:
• "نحن الصمود الذي لا يُشترى".
من هناك، حيث الموت يختبئ تحت حذاء المدينة، يتردّد صوت كامل الخوداني:
• "الجبناء لا يعرفون طُرق النجاة".
ومأرب، على عادتها، تُغلق الباب في وجه الخائن وتتركه للغبار.
.. والله المستعان
*المقال نقلا عن صفحة الكاتب على منصة إكس