من بعد الحرب العالمية الثانية ظهرت الولايات المتحدة كقوة عظمى سياسية واقتصادية وعسكرية، ومن هنا بدأت تشعر بأن أمنها القومي لم يعد منحصرا بالقارة الأمريكية فقط لكن الجغرافيا العالمية بقاراتها الخمس تعد من اهتمامات أمنها القومي، لذلك شرعت أمريكا على الفور بعد الحرب العالمية الثانية بتقسيم أجزاء واسعة من العالم إلى ثلاثة مسارح عملياتية استراتجية، هي:
1- مسرح عمليات أوروبا، ويشمل كل أجزاء القارة بما في ذلك حواف القارة القطبية وجعلت مركز قيادتها بألمانيا.
2- مسرح عمليات منطقة الشرق الأوسط، والذي يبدأ من سلسلة جبال الهملايا ويشمل الهند وباكستان وأفغانستان مروراً بإيران ودول الخليج العربي والشام وصولاً إلى اليمن في أقصى جنوب القارة الآسيوية، ثم إلى دول القرن الأفريقي.
3- مسرح عمليات الباسفيك، ويظم كل الدول المشاطئة للمحيط الهادي وصولاً إلى روسيا واليابان والصين وتايوان والكوريتين الشمالية والجنوبية.
وأمام هذا التقسيم العملياتي الاستراتيجي، كان لابد من استنبات بعض الحواضن التي يمكن الاستفادة منها عند حدوث نزاعات وصراعات دولية، على المستوى الإقليمي والدولي، من أبرزها بريطانيا في القارة الأوربية، وإسرائيل بمنطقة الشرق الأوسط، وتايوان وكوريا الجنوبية بمنطقة الباسفيك والشرق الأدنى. واستمرت أمريكا تدير مناطق النزاعات بهذه الجغرافيا الواسعة من العالم حتى اليوم.
الشرق الأوسط والحلم الأمريكي
منذ حملته الانتخابية، وحتى وصوله البيت الأبيض، والرئيس الأمريكي دونالد ترامب يتحدث عن ضرورة استعادة أمريكا لهيبتها وعظمتها تحت عنوان "الحلم الأمريكي"، والذي بدأ كشعار أثناء حرب الاستقلال من بريطانيا والامبراطوريات التي شاخت وأفلت (اسبانيا فرنسا وبريطانيا)، وسطوع نجم أمريكا التي يسعى الرئيس ترامب إلى صقل هذا النجم وجعله أكثر توهجا.
من بعد الحرب العالمية الثانية وتشكيل ما عرف بالأمم المتحدة والهيئات والمؤسسات التابعة لها، والتي من أبرز مهامها فض النزاعات والحفاظ على الأمن والسلم الدوليين، ورغم أنه تم وضع النظم والضوابط والمواثيق الدولية التي انبثقت عن هذه المؤسسة الدولية، إلا أنها لم تمتلك من القوة والأدوات الكافية للحفاظ على الأمن والسلم الدوليين. بالإضافة إلى أن هذه المنظمة جردت من دورها من خلال منح الدول الخمس الدائمة العضوية (أمريكا روسيا والصين وفرنسا وبريطانيا) الهيمنة الكلية على أي قرارات ذات أهمية، من خلال منح هذه الدول حق الفيتو، والذي يعطل أي قرارات متعلقة بمصاير الدول والشعوب.
منطقة الشرق الأوسط هي واحدة من أهم بؤر الصراع بالعالم، لأسباب عديدة منها، التحولات الجيوسياسية العالمية. كما شكلت دولة إسرائيل منذ قيامها على أرض فلسطين العربية أكبر مشكلة سياسية وإنسانية بمنطقة الشرق الأوسط، فمنذ أنشاء وقيام هذا الكيان الإسرائيلي بالعام 1948 وحتى اليوم، شهدت منطقة الشرق الأوسط وعلى وجه الخصوص المنطقة العربية العديد من الحروب الدائمة والمدمرة في العديد من الدول (فلسطين، مصر، سوريا، الأردن ولبنان) والعديد من الدول العربية التي انخرطت بهذا الصراع بصورة مباشرة أو غير مباشر.
وخلال الخمسة وسبعون عاماً دخلت المنطقة العربية بحالة صراع دائم وشهدت حضور دائم لأمريكا، اتسم بالانحياز والتحالف الاستراتيجي مع إسرائيل، رغم وجود علاقات ومصالح ومنافع متبادلة بين كل الدول العربية وأمريكا.
اتسمت الأهمية الاستراتيجية لمنطقة الشرق الأوسط من المنظور الأمريكي بأهمية كبيرة، وذلك لعدة أسباب، منها:
1- تتركز في المنطقة العربية أكبر الاحتياطيات النفطية والغازية بالعالم، وتعتبر الدول العربية من أكبر منتجي الطاقة على مستوى العالم.
2- الموقع الجغرافي والاستراتيجي للمنطقة العربية، حيث تتحكم بأهم طرق التجارة والملاحة في العالم، يأتي في مقدمتها الممرات والمضائق المائية، مثل مضيق هرمز بالخليج العربي، والذي تمر عبره ثلث احتياجات العالم من النفط والغاز، من كبار منتجي الطاقة المملكة العربية السعودية والعراق والكويت والإمارات العربية المتحدة، ومضيق باب المندب والذي يعتبر هو الآخر ممر مائي حيوي حديث تمر عبره قرابة 20%من التجارة العالمية، قناة السويس، والتي تربط البحر الأحمر ومضيق باب المندب بالبحر الأبيض المتوسط.
3- الإطلالة البحرية الواسعة للمنطقة العربية والتي مثلت همزة وصل حيوية بين القارات.
4- الصراعات السياسية والعسكرية والأمنية والايدلوجية، والصراع العربي الإسرائيلي والذي شهد عدة حروب منذ قيام الكيان الإسرائيلي وحتى اليوم، والانحياز الأمريكي الواضح إلى جانب الكيان الإسرائيلي الغاصب لأرض فلسطين العربية، وتشريد الشعب الفلسطيني.
كل هذه العوامل جعلت الولايات المتحدة الأمريكية تركز جل جهدها وحضورها القوي والمؤثر بالمنطقة العربية.
منذ حملته وحتى وصوله إلى البيت الأبيض والرئيس الأمريكي دونالد ترامب يبشر بسياسة جديدة كلياً ويقول إنه يستعيد لأمريكا عظمتها وقوتها العالمية.
اليوم ترمب وفي ظل سياسة القطب الواحد، وبغياب القطبية الثنائية التي كانت سائدة إلى نهاية التسعينات عندما تفكك الاتحاد السوفيتي السابق، ومع هذا الغياب للقطبية الثنائية نرى اليوم ترمب حاملا العصى الغليظة ضد العالم.
بدأ ترامب تصريحات مستغربة لم يسبقه بها أي رئيس أمريكي، كحديثه عن أنه سيضم كندا ويجعلها ولاية أمريكية، رغم أن كندا أكبر مساحة من أمريكا نفسها، وتصريحاته عن أنه سيستعيد السيطرة على قناة بنما، وأنه سيسيطر على جزيرة غرينلاند، والتي تعتبر أكبر جزيرة على مستوى العالم، وهى تابعة لمملكة الدنمارك، وهذه الجزيرة أكبر بالمساحة من الدنمارك بخمسة وخمسين مرة، ويبشر بوقف الحرب بأوكرانيا وإذلال روسيا والصين عن طريق تيوان والتجارة العالمية وطريق الحرير.
أما فيما يتعلق بسياسته في الشرق الأوسط، وبالأخص المنطقة العربية، يبدو أن ترمب مثله مثل تاجر البندقية "شيلوك"، فقد فاجئ العالم العربي والشعب الفلسطيني بل والعالم بخطته لشرق أوسط جديد، والتي من أبرز ملامحها تهجير الفلسطينيين إلى مصر والأردن بحجج وذرائع عديدة، وكأنه اليوم أبدى ما في عقله الباطن، وتراجع كليا عن فكرة حل الدولتين كحل نهائي للقضية الفلسطينية، واليوم وأمام هذه العقلية المخالفة لكل الأعراف الدولية، يقفز ترامب متجاوزا كل معايير العلاقات الدولية، واحترام سيادة الدول، وكأنها مزارع لقطيع يديره، ويحق له نقل القطيع هذا من مكان إلى آخر.
إعلان ترمب صراحة المضي قدما بتصفية القضية الفلسطينية عن طريق تهجير أهل غزة إلى مصر والضفة إلى الأردن، وكأنه اليوم يكشف حقيقه صفقة القرن والسلام الابراهيمي والذي تتبدأ ملامح الشرق الأوسط الجديد بجعل إسرائيل هي المركز والبقية نجوم هلامية تدور حول هذا المركز.
أمام هذه السياسة الاستعلائية للرئيس ترمب، نعتقد أنه سيتسبب بعزلة دولية لأمريكا، فأمريكا من بعد الحرب العالمية الثانية كانت قوية بحلفائها الاوربيين والعرب وأمريكا الشمالية وكندا والمكسيك وامريكا الجنوبية خصوصاً بالجانب الاقتصادي.
وبالعودة إلى أيام الحرب الباردة كان الاقتصاد الأمريكي يشكل 35,%من حجم الناتج العالمي، اليوم تراجعت هذه النسبة إلى 16%، وهذا معناه أن أمريكا لن تكون قوية إلا بحلفائها، مالم فقد يكون مصير ترمب وأمريكا كمصير القيصر يولوس قيصر، الذي اغتيل على أيادي أقرب المقربين إليه، وتفككت الإمبراطورية الرومانية إلى أجزاء صغيرة متناحرة بعد أن كانت سيدة العالم القديم.