أنا شقيق الشهداء.. لا من رحم واحد، بل من ترابٍ واحد اسمه اليمن، أنا شقيق من سقطوا في التواهي وعدن وأبين ولحج ويافع، ومن ارتقوا في نهم والجوف والبيضاء.
أنا شقيق من صعدوا إلى السماء من تعز التي قاومت وحدها، من مأرب التي وقفت كجدارٍ في وجه الإعصار، من شبوة التي رفضت الخنوع، ومن الضالع التي قاتلت بجراحها ومن بيحان العظيمة.
أنا شقيق من غادروا بلا وداع، من رقصوا للحرية على إيقاع الرصاص، من قالوا “لا” في زمن الخضوع، ودفعوا ثمن الرجولة أرواحاً ودماء.
طوال سنوات عملي كمراسل حربي، كنت أتنقّل من جبهة إلى جبهة، لا لأنقل أخبارهم فقط، بل لأحمل بعضاً من وجعهم، رأيتهم في خنادق الدريهمي، يزرعون الضحكة بين دخان القصف، ويقتسمون كسرة الخبز وكأنها وليمة.
سمعت أنفاسهم تتقطع في صعدة، في جبال مران، في كتاف والبقع ، حين كان الموت يتربص بكل زاوية، ومع ذلك كانوا يغنون للوطن.
رافقتهم في ميدي وحرض وعلى حدود عبس ، في خطوط النار التي لا تهدأ، في الليالي الطويلة التي لا يرى فيها الجندي غير عيني زميله، غير صوت قلبه وهو يقول: إذا مت، بلغ أمي أني كنت صامداً مجاهداً وأني عاشق اليمن.
في تعز، المدينة الجريحة، رأيت أطفالاً يدعمون جنود الشرعية بالدعاء والتهليل لا لأنهم يحبون الحرب، بل لأن الحرب اقتحمت بيوتهم، وسرقت أحلامهم.
في أبين، كان هناك من يقاتل بشرف رغم أن جسده منهك… سألته لماذا لا تترك؟ قال: لأن هذا تراب أبي.
في مأرب، الأرض التي حمت الجمهورية حين خانها الكثيرون، كنت أرى الأبطال يُستهدفون بالصواريخ الإيرانية، ويستمرون في حراسة المدينة وكأنهم يحمون أمهم.
في الجوف، سقط رفاق كثيرون، وكنت أسمع في كل مرة صدى صرخة تقول: لن نتركها للظلام.
أنا شقيق الشهداء من كل قرية ومدينة، من يافع وردفان، من المحفد والمسيمير، من بيحان وعسيلان، من القبيطة وكرش، من الوازعية والمخا، من صرواح ومجزر، من خب والشعف، من الزاهر وقيفة، من الساحل والحديدة… من كل حبة تراب رفضت الركوع.
رأيت رجالاً يحفرون قبورهم بأظافرهم في الضالع، ويزرعون العلم فوق الجبال في البيضاء.
رأيت امرأة تطبب المقاتلين في عدن، وأخرى تودع ابنها في لحج وهي تبتسم وتقول: ارجع حرا أو لا ترجع.
رأيت شهيداً يرتدي ساعة والده، وكتب على ظهر خوذته: الوقت ليس لنا… هو للوطن فقط.
أنا شقيقهم… كنت أشاركهم الخبز والماء، وأحياناً الدم.
أعرف رائحة الشهادة، ليست كما يصفونها… هي مزيج من التراب والبارود، ممزوجة بدعوة أم، وحلم معطّل.
عرفت كيف يموت البطل دون أن يتراجع، كيف يغطي جرحه حتى لا يُقلق رفاقه، كيف يكتب رسالته الأخيرة على كرتونة سلاح، أو على غلاف علبة دواء.
عرفت كيف يتبرع الجندي بكليته قبل المعركة، لأنه يعلم أنه قد لا يعود، فيترك جزءاً منه ليعيش في جسد أخيه.
من صعدة إلى باب المندب، أنا شقيق شهداء اليمن.
شهداء لا تميزهم لهجة ولا منطقة، لأن الوطن لا يُقسم.
استشهدوا وهم يهتفون: اليمن لنا… ولن نتركها للعتمة والكهنوت والتخلف.
في كل زاوية من جبهات العز، كان لي أخ.
أخ لم تلده أمي، لكنه وُلد معي في لحظة المواجهة.
كان يبتسم حين أرتعب، ويشدّ على يدي حين تضعف قدماي.
كان يكتب على جدار الخندق: إن متّ، لا تبكِ… بل احمل سلاحي وأكمل.
أنا شقيق من استُشهد وهو يتيم، لم يعرف الأب، ولم يحظَ بحضن الأم، لكنه احتضن اليمن كلها.
أنا شقيق من ترك عروسه ليلة الزفاف، ليلتحق بجبهة نهم، فاستقبلوه في السماء قبل أن تستقبله قاعة العرس.
أنا شقيق من كانت وصيته الوحيدة: لا تسمحوا للحوثي أن يحكمنا بالخرافة.
أكتب الآن، لا كصحفي، بل كأخ كبير فقد كل إخوته، وبقي وحده ليروي.
أكتب ليعرف من في القصور أن هؤلاء لم يموتوا من أجل راتب ولا منصب، بل من أجل وطن.
وأن الخذلان في حقهم جريمة.
أنا شقيق الشهداء… لا أبحث عن عزاء، بل عن وفاء.
لا أطلب دموعكم، بل أن تكملوا ما بدأوه.
أن تحموا الجمهورية التي دفعوا أرواحهم من أجلها.
أن تُنزلوا الخونة من المنابر… وتُعيدوا للدم معناه.
سلاماً على كل شهيدٍ في وطني.
وسلاماً على من لا يزال يقاتل، نيابة عنّا جميعاً.
أما أنا… فسأظل أكتب
وأبكي بصمت
لأن كل من سقطوا في الميدان
كانوا إخوتي