برّان برس - وحدة التقارير:
منتصف ديسمبر 2024، حشدت جماعة الحوثي المصنفة عالميًا بقوائم الإرهاب، العشرات من مشائخ ووجهاء قبائل مديريات دمت وجبن وقعطبة بمحافظة الضالع (جنوبي اليمن)، لتوقيع ما أسمّته “وثيقة شرف قبلي”.
تتضمّن الوثيقة، وفق مصادر محلية، بنودًا تفرض على المشايخ والوجهاء دعم جبهات الجماعة بالمقاتلين والأموال، والتبرؤ من أبنائهم وأقاربهم المنخرطين في صفوف قوات الحكومة اليمنية المعترف بها دوليًا.
وتأتي تحركات جماعة الحوثي في الضالع، ضمن مخطط وصفه مواطنون من أبناء الضالع بأنه “خطير”، متهمين الجماعة باستغلال القبلية وعرف “النكف القبلي” لفرض وجودها من خلال تعميق الانقسام المجتمعي وترسيخ واقع التشطير في المحافظة التي تتوسط حدودي شطري اليمن.
وتحدثت سياسيون وعسكريون ونشطاء لـ“بران برس”، عن معاناة المحافظة من سياسات جماعة الحوثي التي قالوا إنها تهدف لإعادة إنتاج الصراعات القبلية في المحافظة التي تمثّل شوكة الميزان في مسألة الوحدة/الانفصال.
عن الضالع
تعد محافظة الضالع إحدى المحافظات اليمنية التي تم استحداثها بعد الإعلان عن قيام دولة الوحدة، تبلغ مساحتها 4099 كم2، وتتوزع في تسع مديريات، وتبعد عن مدينة عدن المعلنة عاصمة مؤقتة للبلاد 120 كم.
ففي عام 1998، أعلنت محافظة مستقلة بعد أن ضم إليها 5 مديريات جنوبية (الضالع والأزارق وجحاف والحصين والشعيب)، و4 مديريات شمالية (قعطبة، ودمت وجبن من محافظة إب، والحشاء من محافظة تعز).
قبيل إعادة توحيد شطرَي البلاد عام 1990، كانت جزءًا من جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، وكانت توصف بأنها محافظة “الوحدة والانفصال”، ومحافظة المعارضة، ومؤخرًا معقل الحراك الجنوبي.
ضغوط وتهديد
حول الحشد القبلي منتصف ديسمبر الماضي، قال شيخ قبلي من أبناء الضالع، لـ“بران برس”، مفضلًا عدم ذكر اسمه، استُدعينا إلى لقاء قبلي نظّمته جماعة الحوثي بمديرية قعطبة، باسم إعلان النفير العام في مواجهة بما يسموه العدوان ومرتزقته لكن تفاجأنا بوثيقة ضمن بنودها إعلان البراءة ممن يقف بصف الشرعية من أبناءنا.
وأضاف: تمت ممارسة ضغوط كبيرة علينا لتوقيعها، ولم يكن أمامنا خيار آخر. وقعنا عليها تحت تهديد مباشر، وتخويف بأن من يرفض سيتعرض للعقاب والمساءلة، بل والتشكيك في ولائه.
وتابع: لا نقبل أن نتبرأ منهم، لكننا مجبرون في ظل سيطرة السلاح والقوة. مشيرًا إلى أن “هذه الممارسات تزرع الفتنة بين أبناء القبيلة الواحدة، وتضرب صميم العلاقات الاجتماعية التي تربطنا بأبناء الضالع جنوبًا وشمالًا”.
الخطر الحقيقي
رغم انقسام السيطرة على الضالع بين القوات الحكومية وجماعة الحوثي، إلا أن الأخيرة تتعامل مع المحافظة كأنها تابعة لها، بدءً بإجبار القبائل على رفد جبهاتها بالمال والمقاتلين، إضافة إلى استقطاب الشباب للدورات التعبوية التي تنظّمها لغرس أفكارها الطائفية في عقولهم، وكذا حشد القبائل للتعبير عن مواقفها بمسمّى “النكف”.
يقول العميد فضل النميري، أركان اللواء 83 مدفعية بمحور الضالع، إن جماعة الحوثي لا تكتفي بالسيطرة بقوة السلاح، بل تسعى لتفكيك النسيج الاجتماعي من الداخل عبر أدوات ناعمة في مظهرها وخطيرة في مضمونها، كوثائق البراء والنكف القبلي”.
وأضاف النميري، في حديثه لـ“بران برس”، أن هذه الممارسات “ليست بريئة”، مشيرًا إلى أنها “تهدف لغرس بذور الكراهية والثأر بين أبناء الضالع أنفسهم، ليظل الشقاق حيًّا حتى بعد انتهاء الحرب”.
وأشار إلى أن “الخطر الحقيقي يقع على الأجيال القادمة، حيث تسعى الجماعة لحقنهم بالفكر الطائفي والزج بهم في الجبهات لقتال أبناء جلدتهم”. وقال إن “ما نراه اليوم هو تشطير يتجاوز الجغرافيا فالجماعة تزرع الفتن داخل المحافظة، وهذا أخطر من أي معركة عسكرية”.
صراعات مستقبلية
الناشط المجتمعي عبدالرقيب ناجي، من أبناء الضالع يسكن المناطق الخاضعة لسيطرة جماعة الحوثي، أشار في حديثه لـ“بران برس”، إلى أن “الصراع الفكري سيبقى حتى لو انتهت الحرب المسلحة في هذه المحافظة”.
وفي ظل هذا الواقع قال: “ستولد صراعات مسلحة جديدة في المستقبل، ولن نجد سلامًا حقيقيًا، بل سندور في حلقة صراع لا تنتهي ما دام الجماعة تصر على غرس فكرة الشر المطلق في الطرف الآخر ووصمهم بالمرتزقة، العدوان، الخونة، الدواعش، الوهابيين، واليوم وصل البعض لنعت من يختلفون معاهم بالصهاينة”.
وأضاف أن خريجي مراكز الجماعة يرون في الآخرين الذين “لا يؤمنون بفكرة الولاية أو التقديس لآل البيت أو العترة كفرة وخونة وعملاء”. مضيفًا أن “كل طرف يحمل الآخر صفة الكفر والعمالة والنجاسة” وهذه الأفكار تعيق المستقبل وتوحيد الصف.
موقع حساس
من جانبه، قال الناشط أحمد دحان، وهو من أبناء الضالع الذين يسكنون مناطق سيطرة الحكومة المعترف بها، قال إن الجماعة “تتعمد وضع أبناء جلدتنا في مواقف عدائية ضدنا”.
وأوضح في حديثه لـ“بربان برس”، أنها تقوم بذلك من خلال استقطاب الأطفال والشباب في دوراتها التعبوية وعرضهم لوسائل الإعلام، وإجبار القبائل على حضور جميع مناسباتها وفرض عليهم أداء الولاء.
وإضافة إلى ذلك، قال إنها تشجع الشباب المنخرطين معها على التعنت والعداء الواضح في الميدان وفي مواقع التواصل الاجتماعي، معتبرًا هذه سياسة تتخذها الجماعة الحوثية لضرب المجتمع في بعضه البعض.
وكان الأحرى بالجماعة، وفق دحان، أن تعامل هذه المناطق معاملةً خاصة نظراً لموقعها الجغرافي الحساس، كونها مناطق تماس يتداخل فيها نفوذ أطراف الصراع، وأن يتم إعفاء أبناء هذه المناطق من كل ما من شأنه الإضرار بمصالحهم الحياتية اليومية، وفي مقدمتها النكف القبلي الذي يتم إقحامه في كل شيء تقريبًا.
واستغرب الناشط دحان، “الإصرار الغريب للجماعة على الترويج لنفسها عبر النكف والبراءة والخروج في مناسباتهم بلغ مستويات غير معقولة”. مشيرًا إلى أن “الكارثة الأكبر ستحدث في المستقبل المتوسط والبعيد في حال انتهاء الجماعة من هذه المناطق، علاوة على تكريس ثقافة التشطير والطائفية بديلاً عن الوحدة”.
تكريس الانفصال
يعتمد أبناء الضالع، على عدن وباقي المحافظات لتسيير معاملاتهم وأمورهم المعيشية، وهو ما يجعلهم ضحايا لأنشطة جماعة الحوثي التي يرون أنها “تكرّس الانفصال وتزرع بذور الفتنة بين المديريات الشمالية والجنوبية”.
تحدث أحد وجهاء القبائل شمال الضالع، لـ“بران برس”، مفضّلًا عدم كشف هويّته لأسباب أمنية، عن مشاكل أمنية وضغوطات معيشية لكثير من أبناء المحافظة يسببها الظهور إعلاميًا في الأنشطة التي تقيمها الجماعة.
وقال إن “ظهورنا في المناسبات الحوثية وترديد الصرخات الخاصة بالجماعة أمام وسائل الإعلام خلق حالة من العزلة بين أبناء المديريات الشمالية والجنوبية، وحرمت كثيرًا من الأهالي من الوصول إلى أراضيهم أو زيارة أقاربهم في مناطق الحكومة الشرعية، خصوصًا في عدن التي تمثل شريان الحياة لكثير من أبناء الضالع”.
واتهم جماعة الحوثي بتحويل القبيلة إلى أداة سياسية لضرب وحدة المجتمع”. وقال: نُجبر على الظهور الإعلامي وكأننا نؤيدهم، فيما الحقيقة أننا نعيش حصارًا اجتماعيًا واقتصاديًا خانقاً، البعض مننا لا يستطيعون المرور إلى مصادر رزقهم، وكل هذا نتيجة سياسة ممنهجة لتكريس الانقسام وزرع الفتنة بين المديريات داخل الضالع”.
معركة هوية وانتماء
وفق حديث أبناء الضالع، فإن “النفير القبلي” الذي تفرضه الجماعة في مديريات الضالع الشمالية يختلف عن غيره في الجبهات الأخرى، موضحين أنه يحمل مشروعًا لفرض واقع انفصالي على حساب وحدة المحافظة، ومن شأنه إعادة رسم خارطة الصراعات الداخلية وفق مقاسات سياسية تخدم مصالح الجماعة.
أوضح المتحدث باسم جبهة ومحور الضالع، فؤاد جباري، لـ“بران برس”، أن “هذه السياسات تؤسس لنزيف طويل في الذاكرة الجماعية، وتضع الأجيال القادمة في دوامة من الكراهية والقطيعة المجتمعية”.
وحذّر “جباري”، من خطورة هذه الأنشطة التي قال إنه “لا يمكن معالجتها بسهولة بمجرد انتهاء الحرب”. موضحًا أن ما يجري “ليس فقط معركة نفوذ سياسي، بل معركة هوية وانتماء، يتم فيها اقتلاع الناس من سياقهم التاريخي والثقافي وإعادة تشكيلهم وفق منظور أيديولوجي ضيق”.
واتهم جماعة الحوثي بتحويل المناطق الخاضعة لسيطرتها إلى “ساحة تجريب لسياسات النفير والتجييش، غير آبهة بما تسببه من تفكك اجتماعي وضغط نفسي ومعيشي على السكان”.
وقال: بدلاً من التعامل مع سكان هذه المديريات باعتبارهم مواطنين يرزحون تحت ضغط الحرب والانقسام، تتعامل معهم كخصوم محتملين أو أدوات تعبئة إجبارية، تُفرض عليهم الولاءات وتجرّهم إلى مناسبات لا تمثلهم، وتجبرهم على البراء من أقربائهم لمجرد اختلاف الموقف السياسي”.
وأضاف: “حين تُستخدم القبيلة كأداة قسرية لتجريد الناس من روابطهم العائلية، ويتم تغذية العداء بين أبناء المنطقة الواحدة، فإننا أمام سياسة ممنهجة لصناعة الانفصال داخل المحافظة بشكل خاص وبالدولة بشكل عام”.
وأشار إلى أن “هذا يضع الجماعة في مواجهة مباشرة مع القوانين الدولية، ويستدعي مساءلة قانونية في أي مرحلة من مراحل العدالة الانتقالية المقبلة”.
انتهاك صارخ
من جانبه، اعتبر الناشط الحقوقي ورئيس منظمة ميون لحقوق الإنسان، عبده الحذيفي، هذه الممارسات الحوثية تدخل ضمن نطاق “الإكراه السياسي والاجتماعي”، مضيفًا أن هذا يعدّ انتهاكا صارخا للحقوق الأساسية، ومنها حرية الانتماء والحق في الحياة الكريمة والأمان الاجتماعي.
وأضاف الحذيفي، في حديثه لـ“بران برس”، أن استغلال الحوثيين للروابط القبلية والطائفية بهدف تعزيز الانقسام الداخلي يتعارض بشكل مباشر مع المادة (20) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، التي تكفل حرية الفرد في الانتماء وعدم الإكراه على تبني مواقف أو أفكار سياسية.
وقال إن فرض مواقف سياسية بالقوة أو إلزام الأفراد بالتنصل من ذويهم تحت التهديد، يرقى إلى جرائم نفسية واجتماعية موثقة، وهي ممارسات تهدد وحدة الدولة وتقوّض مبادئ العيش المشترك، وتخالف القوانين اليمنية والدولية على حد سواء.
واختتم الحقوقي الحذيفي، حديثه بالتأكيد على أن “هذه السياسة ليست سوى وسيلة ممنهجة لتأسيس حالة تشطير فعلي داخل المجتمع”، مضيفًا أن الجماعة “تمارس شكلًا من أشكال الهندسة الاجتماعية القسرية” لإعادة بناء الولاءات والهويات في المناطق الخاضعة لسيطرتها، وهو أمر لا يمكن تجاهله في أي تسوية سياسية قادمة.