في بلد مزقته الحرب وتنازعته المشاريع السياسية والولاءات الطائفية والمناطقية والحزبية لا تقتصر مهمة رئيس الوزراء اليمني الجديد، الدكتور سالم بن بريك، على إدارة شؤون حكومة متعبة، بل تتجاوز ذلك إلى مهمة التناغم مع رئيس الجمهورية رشاد العليمي. انقاذ وطن. فمهمة الرجلين أشبه بمحاولة تجميع شظايا الدولة المتناثرة، واستعادة ما تبقى من ملامح النظام الجمهوري وسط أنقاض السلالة والطموحات الانفصالية والتقاطعات الحزبية الضيقة. فالتحدي الحقيقي لا يكمن في تولي رئاسة الحكومة فحسب، بل في إعادة إحياء فكرة الدولة ككيان سيادي موحد، يحتكم إليه الجميع وتُبنى عليه مؤسسات القانون والمواطنة.
المهمة الأولى التي ينبغي على بن بريك التصدي لها تتمثل في تفكيك وهم الثنائية السياسية في الجنوب، الذي يُراد له أن يظهر كصراع بين "مشروع دولة جنوبية" وبين بقية اليمن. فالقبول بهذه الثنائية يُعد خيانة لمهمة الحكومة الأساسية: استعادة الدولة اليمنية الواحدة، لا التمهيد لتقسيمها. فالدولة لا تُبنى على أساس مناطقي أو جهوي، بل باعتبارها المظلّة الجامعة لجميع اليمنيين، والحامية لمصالحهم المشتركة. وعلى رئيس الوزراء أن يعلن بوضوح من أول يوم أن حكومته تمثل اليمن بأكمله، لا منطقة دون أخرى، ولا فئة على حساب أخرى.
إن نجاح الحكومة الجديدة مرهون بقدرة رئيسها على الانسجام مع مؤسسة الرئاسة، وعلى وجه الخصوص رئيس مجلس القيادة، وعلى تفكيك الارتباط العضوي بين أداء الجهاز التنفيذي وبين التوازنات الهشة التي فرضتها التشكيلات المسلحة والمكونات السياسية المأزومة. فهذه التوازنات لم تضمن الاستقرار، بل ساهمت في تفتيت الدولة وتجريف مؤسساتها. ولذلك، فإن القطيعة مع نهج المحاصصة يجب أن تكون أولوية؛ لا إصلاح بدون الكفاءة، ولا دولة بدون مؤسسات تُبنى على أساس الانتماء الوطني لا الولاء الحزبي أو المناطقي.
العمل الحكومي، في ظل تعدد مراكز القوى وتشظي القرار، محكوم عليه بالفشل. ومن هنا، فإن استعادة هيبة الدولة تبدأ من إعادة الاعتبار لدور المركز الإداري، لا عبر السيطرة الأمنية فقط، بل من خلال إعادة تفعيل مؤسسات الدولة، وتوسيع حضورها في كل المحافظات، وتجفيف منابع الكيانات الموازية التي تتصرف كـ"دويلات داخل الدولة". لا مجال لدولة فاعلة في ظل سلطات متداخلة وجيوش متعددة الولاءات.
لقد فقد الشارع اليمني ثقته بالحكومات المتعاقبة، وأصبحت كل حكومة جديدة تُستقبل ببرود، وكأنها امتداد للفشل. والمطلوب من بن بريك اليوم هو كسر هذه القاعدة. يجب أن يواجه الناس بخطاب صريح، يربط بين المسؤولية والمحاسبة، ويقدم برنامجًا عمليًا بأولويات ملموسة: الكهرباء، صرف الرواتب، تحسين التعليم، وتعزيز الأمن. لم يعد المواطن يحتمل المزيد من "التخدير الإعلامي"، بل يريد حكومة يرى أثرها في تفاصيل حياته اليومية.
لا ينبغي للحكومة أن تنجر إلى مستنقع الصراعات السياسية بين القوى المتنازعة كالمجلس الانتقالي، والإصلاح، والمؤتمر. المطلوب هو تحييد هذه الملفات لصالح أولوية كبرى: منع انهيار الدولة. وهنا، يجب أن يتعتمد رئيس الجمهورية كمرجعية توافقية عليا، لنزع فتيل الصراع . فمهمة الحكومة ليست الانتصار لهذا أو ذاك، بل الحفاظ على الحد الأدنى من التماسك الوطني ومنع السقوط في المزيد من التشظي والانقسام.
إن تعيين الدكتور سالم بن بريك لا يجب أن يُنظر إليه كعملية تدوير لأسماء، بل كفرصة لإعادة تعريف وظيفة الحكومة في اليمن. فالغاية ليست فقط تحسين الأداء، بل إعادة بناء الثقة في إمكانية الدولة نفسها. وإذا تمكن بن بريك من تجاوز إرث الانقسام، وأسس لنهج وطني رشيد، فإن حكومته قد تكون بداية الطريق نحو استعادة اليمن والجمهورية..
ختامًا
نبارك للحكومة الجديدة، ونتمنى لرئيس الوزراء السابق التوفيق، مع الأمل أن تشكل هذه اللحظة نقطة تحول لا مجرد تبديل في الوجوه.