عهد ترامب الثاني.. من يفهم المزاج الأميركي يربح

توفيق الحميدي
في عالم السياسة الأميركية، لا يشبه دونالد ترامب أحدًا. رئيس خارج السرب، لا تحكمه القواعد التقليدية ولا يؤمن بالمؤسسات التي صقلت معظم أسلافه في البيت الأبيض. فهو رجل المال قبل أن يكون رجل الدولة، وشعاره “أميركا أولًا” لم يكن إلا ترجمة حرفية لأولويات اقتصادية وتجارية لا تتورع عن دهس المبادئ إذا تعارضت مع الأرباح.
وقد جاءت زيارته اليوم إلى السعودية، كأول جولة خارجية له في ولايته الثانية، لتؤكد هذا المسار. لم تكن الزيارة مجرد حدث بروتوكولي، بل إعلان صريح عن عودة ترامب إلى المسرح الدولي بأسلوبه الخاص: صفقات ضخمة، تفاهمات أمنية، ومواقف صادمة. رافق زيارته توقيع اتفاقيات دفاعية بقيمة 142 مليار دولار، إلى جانب التزام سعودي بالاستثمار في أميركا بمئات المليارات. كما سبق الزيارة مؤشرات أخرى على نهج أكثر انفتاحًا تجاه قوى إقليمية مثيرة للجدل، منها فتح قنوات تفاوض مباشرة مع حماس، ورفع العقوبات عن النظام السوري، ومنح أردوغان دورًا أكبر في التوسط بين روسيا وأوكرانيا، وسط توتر واضح في علاقته بنتنياهو. كل ذلك يعكس تحولات جدية في المقاربة الأميركية، يجب على المنطقة أن تلتقط إشاراتها قبل أن تفوت الفرصة.
اليوم، يعود ترامب كأقرب الرؤساء الأميركيين – بطريقته الخاصة – إلى المنطقة العربية، لا بسبب تبنيه لقضاياها، بل لأن منطقه الواقعي والجريء ينسجم مع مزاجها المتغير وتوازناتها الحادة. فترامب، على خلاف رؤساء “المؤسسة”، لا يؤمن بحروب طويلة ولا بتحالفات أبدية. هو رجل صفقات، يمكن التفاوض معه، ويمكن توقع مفاجآته لمن يقرأه جيدًا.
كسر ترامب تقاليد الرئاسة الأميركية في أكثر من ملف، من كوريا الشمالية إلى طالبان، ومن تطبيع العلاقات إلى فتح قنوات غير معتادة. ففي عهده، تحولت حركات كانت تُدرج سابقًا على لوائح الإرهاب إلى أطراف قابلة للتفاوض – ليس بدافع الإيمان بحقها، بل براغماتية خالصة: “إذا كانوا فاعلين ومؤثرين، فلنتحدث معهم”.
هذا المنطق، رغم انتقاداته، قد يكون أكثر قربًا من منطق الأنظمة العربية التي تعيش على التوازن بين النفوذ والمصلحة. فترامب لا يرى في الديمقراطية رسالة، بل تكلفة. ولا في حقوق الإنسان مبدأ، بل عائق تفاوضي يمكن تجاوزه.
من هذا المنظور، فإن النظرة إلى دول الخليج اليوم من زاوية المرارة التي تعيشها الأمة، أو من خلال الصورة السلبية المترسبة في الذهنية الشعبية، تبدو نظرة قاصرة. فالدول تُبنى على المصالح لا العواطف. ورغم هذا، فإن غياب مشروع موحد وطويل الأمد يجعل حتى المصالح قصيرة الأجل، ومتقلبة بتقلب الإدارات.
في ظل هذا المشهد، تبدو الحاجة ملحة إلى تشكيل مجموعة تفكير تضم خبراء وصنّاع سياسات في العالم العربي، تدرس سيناريوهات “الوضع الترامبي” القادم: ما الممكن؟ وما الخطوط الحمراء؟ وما هي حدود التفاهم والاشتباك؟ لا يكفي أن نراقب من بعيد، بل يجب أن نحسن التموضع في لعبة المصالح.
الأرجح أننا سنكون أمام مفاجآت كبرى خلال فترة ترامب الجديدة ، وستطال ملفات معقدة في شرق وغرب المنطقة. والخاسر الأكبر سيكون من لا يملك الجرأة على استكشاف الفرص. ففي الحالة السورية مثلاً، استطاع النظام إرسال رسائل بلغة يفهمها ترامب، واستعان بمؤثرين يحترمهم الرئيس ترامب كولي العهد السعودي وأردوغان ، اثمرت اعلان الرئيس ترامب من الرياض رفع العقوبات عن سوريا الجديدة ، وهذه رسالة مهمة لحكومة “الشرعية اليمنية” في الرياض التي يبدو أنها مرشحة لتكون أول الخاسرين في ظل غياب استراتيجية واضحة.
بل إن المفاجآت قد تطال ملف الحوثيين. فهناك مؤشرات توحي بأن الملف الاقتصادي قد يُفتح بطريقة مختلفة. وإذا أحسن الحوثي توظيف اللحظة، فقد يجد نفسه في وضع تفاوضي قوي، بينما تظل الشرعية اليمنية مكبلة بخطاب كلاسيكي لم يعد يجد له صدى في عقل ترامب.
ما يجب التنبه له أيضًا أن ترامب ليس فقط رئيسًا بقرارات مفاجئة، بل هو مركز ثقل داخل فريقه نفسه. كثير من المحيطين به لا يمثلون مؤسسات أو تيارات فكرية عميقة، بل أقرب إلى “هواة سياسة” أو شخصيات مدفوعة بولاء شخصي مباشر له، أكثر من أي أجندة حزبية أو إستراتيجية مؤسسية. هذا النمط من الفريق يعيد تشكيل القرار الأميركي على نحو فردي وشخصي غير مسبوق. لا ثوابت فكرية، ولا حسابات طويلة المدى، بل تقديرات سريعة ومواقف غير تقليدية. وهذا ما سيكسر كثيرًا من الأنماط التي اعتادت عليها واشنطن، ويدفع الإدارة الجديدة نحو صدام داخلي محتمل، يعوّض خارجيًا بنجاحات تظهر للرأي العام الأميركي أن “ترامب وحده يعرف كيف يربح”. وهنا تمامًا مكمن الخطورة، ومصدر الفرصة في آن.
وفي هذا السياق، يبدو أن الملف اليمني قد يُعاد فتحه بعيون مختلفة. فالتوجه الترامبي لا يُعير اهتمامًا كبيرًا للشرعيات الشكلية أو الخطابات الدولية الكلاسيكية، بل يميل إلى منطق القوة على الأرض، والكفاءة في إدارة الملفات. وإذا استمر التعاطي من قبل الحكومة اليمنية الشرعية بنفس الأداء المرتبك والتابع، فقد تجد نفسها خارج دائرة التأثير، بينما تقترب جماعة الحوثي – رغم كل ما يحيط بها من تحفظات دولية – من بوابة تفاوض اقتصادي مباشر أو غير مباشر، إذا ما أحسنت تقديم أوراقها. إن القراءة الصحيحة للمرحلة تتطلب تجاوز النمطية، وبناء خطاب تفاوضي واقعي، وتحالفات مرنة، لأن ترامب لا ينتظر أحدًا، ولا يمنح الفرص مرتين.