في كل عام تعود النكبة، لا كتاريخ يُقرأ، بل كجرح يُفتح من جديد، كأن الذاكرة الفلسطينية كتبت على ورق لا يقبل النسيان. لم تكن النكبة يومًا مجرد نكسة عابرة، بل لحظة انفصال كبرى بين الإنسان ومكانه، بين الروح وظلها. مفتاح البيت المعلّق في أعناق الأجداد لم يكن قطعة حديد صامتة، بل وثيقة سردية، دليل ملكية على الحكاية، وعلى أن هناك شعبا لم يغادر المعنى، حتى لو اقتُلع من الأرض.
منذ عام 1948، والعالم يشهد على أطول عملية طرد ممنهجة لشعب كامل، على يد استعمارٍ يزعم التحضّر وهو يغرس الحقد في لحم الأرض. لم تكن النكبة فقط احتلالًا لأرض، بل مشروعا متكاملا للطمس، لاقتلاع الإنسان من ذاكرته، ودفن الوعي في ركام الأكاذيب.
ليست النكبة جرح الفلسطينيين وحدهم. بل جرحنا جميعًا، كعرب، وكمسلمين، وكبشرٍ فشلوا في امتحان الكرامة. تواطأت الأنظمة، صمت العالم، واندفعت جيوش مدفوعة بخرافات دينية مشوهة، لا لحماية حق، بل لحماية مصالح استعمارية تخشى يقظة هذا الشعب.
وفي خضمّ هذا الطمس الممنهج، ظل الفلسطيني يكتب تاريخه بعناد لا يُقهر. النكبة بالنسبة له ليست ماضٍ يُبكى عليه، بل سردية مقاومة، سردية تقول للعالم: نحن هنا، لم ننتهِ.
في غزة، بلغت النكبة ذروتها. هناك، لم تُسقط الطائرات فقط البيوت، بل أسقطت آخر ورقة توت عن جسد الحضارة. وصلت البشرية إلى درك أخلاقي غير مسبوق، تواطأت فيه الآلة الغربية مع الصمت الدولي، ومع خط بياني حاد من الخيانة العربية. لم تعد هناك مساحة للشك: الوحشية باتت قانونًا، والنذالة قاعدة، والخيانة نظامًا إقليميًا معتمدًا.
ومع ذلك، من وسط الركام، اشتعل الضوء. جاء من شوارع نيويورك، من خيام طلاب كامبريدج، من حناجر الهامش التي هزّت مركز الجبروت. هناك، استعادت الإنسانية صوتها، وقالت “كفى”، وأعادت إلى النكبة معناها الكوني: ليست شأنًا فلسطينيًا، بل معنى من معاني الوجود ذاته.
النكبة ليست قدرًا.
بل خطة استعمارية، مصممة لإبقائنا في حالة انكسار دائم.
وإصرار أناني على قتل المعنى، وسرقة المستقبل.
لكن ما يغسل هذا العار لا يكون بالمؤتمرات، ولا بلجان الندم،
بل باستعادة إنسانيتنا.
إنسانيتنا، هي السلاح الوحيد القادر على رد الصفعة.
هي وحدها من تستطيع أن تحوّل هذه النكبة إلى فرصة،
فرصة لبناء سرديتنا من جديد، لا كضحايا، بل كأصحاب حق،
فرصة لإصلاح نظمنا السياسية، واستقلال قرارنا الاقتصادي،
وفرصة لنقول لأنفسنا والعالم: لن نكون هامشًا في حكايتنا بعد اليوم.
فلسطين اليوم ليست مجرد وطن مسلوب، بل اختبار لإنسانيتنا،
واختبار لرجولتنا، واختبار لقدرتنا على أن نقول بصوتٍ واحد:
لم ننكسر… ولن ننكسر.