دعوة لميثاق إنقاذ جديد.. الوحدة الإنسانية اليمنية التي شوهها الساسة

الثلاثاء 20 مايو 2025 |منذ يوم
توفيق الحميدي

توفيق الحميدي

في الثاني والعشرين من مايو من كل عام، تمرّ ذكرى الوحدة اليمنية، لا كما حلم بها اليمنيون، بل كما أُفرغت من معناها؛ طيفًا باهتًا يتسلل في صمت، كزائر ليل غريب لا يستدعي ذاكرة ولا يبعث احتفاء. كانت الوحدة قارب نجاة يمنيًا، عبَر به الشعب شمالًا وجنوبًا إلى أفق الأمل، قبل أن تختطفه أيادي النخب الفاسدة، وتُغرقه في مستنقعات الفساد والتشظي.

لم تكن الوحدة يومًا حدثًا إداريًا أو منّة سياسية، بل كانت في أصلها جوهرًا وجوديًا وإنسانيًا، استجابة لصوت التاريخ، وتطلعات الناس إلى وطن لا تمزقه خطوط التقسيم ولا تعرّيه حسابات السلطة. لكنها اليوم تبدو باهتة، محمّلة بالخسارات، بعد أن شوهها قادة لم يدركوا معناها، وجعلوا منها ساحة غنائم بدل أن تكون مشروع بناء.

في وعي الإنسان اليمني، لم تكن الوحدة قرارًا سياسيًا، بل حالة شعورية خالصة؛ شعور بالاكتمال حين يرى أرضه متصلة، متعانقة، لا تفصلها "براميل" التشطير ولا الجدران النفسية. اليمني وحدوي بالفطرة، يتشارك مع أخيه في اللهجة والموروث والدين والمصير. من عدن إلى صنعاء، ومن تعز إلى حضرموت، كانت الوحدة تعبيرًا عن انتماء جغرافي وروحي مشترك، لا مجرد خط في اتفاقية.

وحين أعلن علي عبدالله صالح وعلي سالم البيض، في 22 مايو 1990، قيام الجمهورية اليمنية، بدا اليمنيون كأنهم طووا صفحة طويلة من التشظي والاحتراب. لكن هذا الإعلان، الذي حُشدت له المعززات التاريخية والدينية، تحوّل لاحقًا إلى مشروع هيمنة لا شراكة، وُلد في لحظة استثنائية، دون أن يُؤسّس له على قواعد مؤسسية عادلة.

دخلت الوحدة اليمنية معركة الدستور منذ يومها الأول، معركة لم تكن بين رؤى دستورية، بل بين مناكفات أطراف أحدها أراد نظامًا مدنيًا عادلًا، وآخر أراد تأبيد السلطة، فحضر الجميع في النقاش وغاب الوطن. فشل الجميع في الاتفاق على قواعد تحكم العلاقة بين المركز والأطراف، وبدأ التنازع على السلطة يغلب روح الوحدة.

في عام 1994، سقطت آخر أحلام الشراكة عندما تحولت الحرب الأهلية إلى "انتصار للوحدة"، لكنها في جوهرها لم تكن سوى فعل استبدادي مغلّف بشعارات قومية. السلطة احتكرتها نخبة أسرية من مركز واحد، والثروة وُزعت حسب الولاء لا الاستحقاق، والمشاركة كوفئت بالصمت أو النفي.

اختُزلت الوحدة في شخوص وامتيازات، وتم إعادة إنتاج الدولة كأداة للغنيمة. مارس صالح حكمه على قاعدة "أنا الدولة، وأنا الدستور"، وقسّم الجيش، ودمّر القوى المستقلة، وحوّل الأحزاب إلى أدوات للترضية. المظهر الديمقراطي كان موجّهًا للخارج، بينما الداخل يدار بالفهلوة السياسية.

ثم جاءت ثورة 11 فبراير 2011، كصرخة وطنية ضد الاستبداد والفساد، أطلقت حوارًا وطنيًا شاملاً، وضع لأول مرة قضايا اليمن كافة على الطاولة. أنتج الحوار عقدًا اجتماعيًا جديدًا، بنظام اتحادي عادل، لكنه اصطدم بجدار العنف والانقلاب والمؤامرات.

تحالف صالح مع الحوثي، وفتح لهم مفاتيح صنعاء. في الجنوب، ظهر عيدروس الزبيدي ليستولي على القضية باسم انفصال مدعوم إماراتيًا. تم تقزيم الوحدة إلى مشاريع تشظّ يغذيها المال الخارجي ويحرسها السلاح.

التاريخ يقدم درسين: كوريا المنقسمة رغم وحدة اللغة، وألمانيا الموحدة بعد عدالة التوزيع والمشاركة. فهل نختار طريق ألمانيا، أم نعيد إنتاج مآسي كوريا؟

الوحدة المنشودة ليست ضم الخارطة إلى صنعاء، بل توزيع عادل للسلطة والثروة. نحتاج إلى مصالحة تاريخية، تنطلق من مخرجات الحوار، ودستور اتحادي حديث. وحدة تحميها المؤسسات، لا البنادق.

ثماني سنوات من الحرب علّمت الجميع أن لا أحد طاهر، ولا أحد بريء. في حضرموت وتعز وإب ومأرب والبيضاء، شعوب تريد إدارة شؤونها، دون وصاية ولا شعارات. الوطن لا يُبنى بالأوهام، بل بإرادة جامعة ومشروع جامع.

الوحدة ليست أرشيفًا للدولة، بل مشروع خلاص حضاري، يبدأ بالاعتراف بالظلم، ويمر بتوزيع السلطة، وينتهي بمواطنة حقيقية. لا وحدة بلا اقتصاد مشترك، ولا وطن بلا عدالة تنموية، ولا سلام بلا مصالحة تنبذ روايات الغلبة.

لكي تصبح الوحدة مشروع إنقاذ لا عبئًا موروثًا، لا بد من تحريرها من قبضة النخب السياسية التي اختزلتها في معارك السلطة، ومنحها مضمونًا جديدًا يُبنى على عقد اجتماعي حديث يضمن الشراكة والمواطنة. 

الوحدة لا تُستعاد بخطابات التمجيد، بل بإعادة تأسيس الدولة على قاعدة ديمقراطية، تُقصي الاستئثار وتعيد توزيع السلطة على نحو عادل، بحيث يشعر كل مواطن أن له مكانًا في قلب الدولة، لا في هامشها.

لا يمكن أن تستقيم وحدة دون مشروع اقتصادي وطني عادل يربط الجنوب بالشمال عبر التنمية لا عبر الولاءات. المطلوب هو إطلاق خطة اقتصادية شاملة تُعيد توزيع الثروة، وتعزز البنية التحتية في المناطق المهمشة، وتشجع الاستثمار المشترك في الموارد، بعيدًا عن عقلية النهب والمراكز. بهذه الطريقة، تتحول الجغرافيا من عبء سياسي إلى فرصة اقتصادية، وتُبنى الوحدة على المصالح المتبادلة لا على القسر.

لكي تتجذر الوحدة في الوجدان لا بد من بناء خطاب اجتماعي جامع يُقرّ بالظلم، ويعتذر عن الماضي، ويؤسس لمصالحة حقيقية تنطلق من الواقع لا من الخطابات. يجب تجاوز رواية “المنتصر والمهزوم” نحو سردية المواطنة المتساوية، التي تُحترم فيها التعددية، وتُدمج الهويات المختلفة ضمن مشروع ثقافي جامع. فالوحدة، قبل أن تكون خريطة، هي شعور بالانتماء إلى كيان مشترك يتسع للجميع دون تمييز.

اليوم، لم تعد الوحدة اليمنية مجرّد قضية شطرين أو خريطة ممزقة، بل صارت جوهر سؤال وطني وجودي: كيف يستعيد اليمن ذاته؟ كيف يخرج من عباءة النخب المتاجرة إلى فضاء الإرادة الشعبية؟ إن تحويل الوحدة إلى مشروع إنقاذ حقيقي يتطلب أن تُنتزع من أيدي المساومين، وأن يُعاد بناؤها على أسس جديدة: وحدة سياسية عادلة تُنهي منطق الإقصاء، واقتصاد وطني شفاف يردم فجوات التهميش، ومجتمع متصالح مع ماضيه، طامح إلى مستقبل مشترك.

فلنُعد للوحدة معناها الأعمق: أن يُصالح الإنسان أخاه، وأن تُستعاد الأرض من أيدي المتنازعين باسمها، وأن تُبنى الدولة من كل شبرٍ في هذا الوطن، لا أن تُدار من فوق. فالوحدة لا تموت، بل تنبض في ضمير الناس، وتنهض في كل مرة يُنطق فيها اسم “اليمن” بإخلاص. هي ليست ذكرى نتأملها، بل مشروع حياة نُعيد اكتشافه كلما آمنّا بأن الوطن لا يُبنى إلا معًا، وبأن المستقبل لا يولد من الشطر، بل من الكل المتصالح والمتكامل.

أخطر ما يهدد الوحدة اليمنية ليس الانفصال السياسي بحد ذاته، بل حين يحوّلها الساسة إلى خلاف اجتماعي يُفرّق بين الناس باسم الجغرافيا والانتماء، ويزرع الشك بين أبناء الشعب الواحد. حين تتحول الوحدة من مشروع سياسي جامع إلى مادة تحريض وهدم في الخطاب العام، تصبح التعددية لعنة، ويغدو كل شطر خائفًا من الآخر. هذا ما حدث في دول عديدة؛ في السودان مثلًا، حين فُرضت هوية أحادية على الجنوب، فتمزق النسيج الوطني حتى وقع الانفصال. وفي لبنان، تحولت الصيغة الطائفية إلى منطق تقاسم لا شراكة، فغابت الدولة، وبقيت الجماعات. أما في اليمن، فإن أخطر ما نواجهه اليوم هو إعادة إنتاج هذا الخلل، حين يُختزل الوطن في المركز، ويُترك المحيط لمصير منسي، أو يُتَّهم بالتمرد حين يطالب بالعدالة. الوحدة لا تصمد إن لم تكن مُلكًا للجميع، وإلا ستتحول إلى بذرة نزاع دائم لا مشروع مستقبل.

واجهت الوحدة اليمنية منذ لحظتها الأولى تحديًا إقليميًا لا يُستهان به، تمثل في رؤية بعض الأنظمة لها كتهديد وليس كفرصة. بدل أن تكون نموذجًا للتكامل، فُسرت كإرباك للتوازنات الهشة، ومصدر إلهام مقلق للشعوب. فشلت بعض القوى في التعامل معها برؤية استراتيجية، فلجأت إلى منطق المكيدة لإفشال تجذرها. حتى اليوم، لا تزال بعض الدول تعمل على شرذمة المشروع السياسي والاجتماعي الذي تقف خلفه الوحدة، فتدفع به ليُختزل في ملفات أمنية، ويُحمَّل عبئًا معيشيًا يوميًا، ليتحول إلى ما يشبه "العفش الزائد" الذي ينبغي التخلص منه كي يستمر القارب في الإبحار. وهذا أخطر ما يُمارس ضد أي فكرة وطنية: أن تُفرَّغ من أملها، وتُثقل بعبء لا تحتمله.

https://barran.press/articles/topic/9451