حين يعترف نائب الرئيس الأمريكي: سرقة الديمقراطية في الشرق الأوسط ليست خطأ خارجيا فقط

السبت 24 مايو 2025 |منذ 23 ساعة
توفيق الحميدي

توفيق الحميدي

حين يعلن نائب الرئيس الأمريكي جي دي فانس أن «بناء الديمقراطيات في الشرق الأوسط شبه مستحيل»، لا يكتفي بذلك بتشخيص مأزق سياسي، بل يرمي بثقل هائل على سؤال أكبر: هل هذا اعتراف بالانسحاب ورفع اليد؟ أم هو إقرار خطير بأن الاستبداد والعسكر هما قدر المنطقة الذي لا مفر منه، وكأنها تحمل في تكوينها البنيوي عيبًا يجعل الديمقراطية حلمًا مستحيلًا وخطرًا مميتًا؟ لكن قبل أن نتسرع بإلقاء اللوم على الخارج، يجب أن ننقب عميقًا في طبقات هذا الفشل، لأن الديمقراطية في هذه المنطقة ليست مجرد خيار سياسي غائب، بل غيابها هو ما يفتح باب الجحيم: الحروب التي لا تنتهي، الميليشيات التي تنمو كالأشواك فوق جثث الدول المنهارة، الانقسامات الطائفية التي تفتك بالمدن والقرى، وتحول الجغرافيا إلى فسيفساء دموية متكسرة، والشعوب التي تعيش بين الخوف من الفوضى والاستسلام لجلادها، حتى صار غياب الديمقراطية ليس غياب نظام بل غياب صمام أمان، غياب الفكرة الوحيدة القادرة على ضبط العنف المنفلت والتعددية الممزقة.

منذ البداية، لم تبن الدولة العربية كعقد اجتماعي شعبي، بل كاختراع استعماري وظيفي، حين رسم الاستعمار حدود المنطقة، لم يكن هدفه بناء شعوب حرة قادرة على تقرير مصيرها، بل خلق كيانات تؤدي وظيفة محددة: ضبط الموارد، تأمين المصالح، إنتاج الاستقرار بما يخدم الخارج، ولهذا جاء الاستقلال كعملية تسليم فنية لا كتحرر حقيقي، فانتقلت الجيوش والأجهزة الإدارية إلى أيدي النخب المحلية التي أعادت تدويرها بنفس المنطق: الدولة باعتبارها أداة إخضاع، لا منصة تمثيل، مؤسسة تحتكر السلطة ولا توزعها، وتخشى المشاركة لأنها تهدد بنية الهيمنة، ولهذا صار الاستبداد ليس مجرد انحراف بل شرط وجود، ومصلحة متقاطعة لكل الأطراف، الخارج وجد فيه استعمارا ناعما لا يكلفه جنديا واحدا ، الداخل وجد فيه وسيلة لضمان احتكار الحكم، وحتى قطاعات من الشعوب، في لحظات الرعب، وجدت فيه ملاذا من المجهول، ففضلت اليد القوية على انفجار الهويات، ولعل أكثر ما يفضح هشاشة المشروع الديمقراطي هو أن خطاب الديمقراطية وحقوق الإنسان، كما استخدمته الأنظمة، كان في جوهره مجرد لغة تُخاطَب بها العواصم الغربية، كأنها كلمات المرور التي تُفتح بها بوابات الشرعية الدولية، لا كقناعة داخلية تعيد صياغة العلاقة بين الحاكم والمحكوم.

وإذا ذهبنا إلى التاريخ، سنكتشف أن الديمقراطية في الشرق الأوسط لم تقتل لأنها ولدت ضعيفة فقط، بل لأنها سرقت بعنف منذ اللحظة الأولى، حين اجتمعت النخب السورية في مؤتمر باريس عام 1920 لصياغة مشروع استقلال حديث ، يقوم علي التعددية  الحزبية ، والممارسة الديمقراطية ، وجاء الرد الفرنسي سريعًا: إعلان الانتداب ودهس الحركة الوطنية في سوريا ، وقد فصلت الكاتبة إليزابيث ف. تومبسون ، في كتابها المعنون ب "كيف سرق الغرب الديمقراطية من العرب: المؤتمر السوري في عام 1920 وتدمير التحالف التاريخي الليبرالي - الإسلامي فيه"، ثم في الجزائر، بعد انتخابات 1991 التي أوصلت الإسلاميين، تدخل الجيش وسحق المسار الديمقراطي بذريعة حماية الدولة، وفي فلسطين، حين نشأت السلطة الوطنية، وجدت نفسها منذ ولادتها كيانًا محاصرًا عاجزًا عن ممارسة أي سيادة أو بناء أي بنية ديمقراطية حقيقية، وفي مصر، بعد الثورة وانتخاب أول رئيس مدني، جاء الانقلاب العسكري ليعيد عقارب الساعة إلى نقطة الصفر باسم إنقاذ الدولة من الانهيار، حتى تونس، التي اعتُبرت قصة النجاح الوحيدة، لم تصمد أمام الانقسامات، لتسقط لاحقا في نزعة التفرد والتراجع باسم تصحيح المسار، وهكذا بدت الديمقراطية مشروعا مستحيلا ليس لأنها لا تناسب المنطقة كما يدعي الغرب، بل لأنها كانت تخنق كل مرة بتحالف الداخل والخارج، وتحاصر بين أشباح الاستبداد ومخاوف الفوضى.

ولعل من أكثر العوامل الخارجية التي لعبت دورًا خفيًا لكن حاسما في منع صعود الديمقراطية في الشرق الأوسط، دور إسرائيل، ليس فقط كدولة احتلال مباشر، بل كمُعادِل جيوسياسي يفرض على المنطقة حالة طوارئ دائمة، إذ تُستخدم دائما كذريعة لإغلاق المساحات السياسية وتبرير استثنائية السلطة، فباسم “الخطر الوجودي” تصبح الدولة الأمنية هي المظلة، والقائد القوي هو الضامن، والقمع أداة مشروعة باسم الدفاع عن الوطن، كما أن الدعم الغربي المفتوح لإسرائيل، سواء في حروبها أو في تطبيعها، ساهم في ترسيخ نموذج إقليمي يُعطي الأولوية المطلقة للأمن والعسكر على حساب أي تحول ديمقراطي داخلي، وكأن الديمقراطية في الدول العربية خطر لا على نخبها فقط بل على مصالح الخارج، فيكون إجهاضها ضرورة لضبط الإقليم بأكمله، ولهذا لم يكن من المدهش أن تنهار كل تجربة ديمقراطية حقيقية على بوابات المعادلات الإقليمية، حيث إسرائيل عنصر دائم الحضور، إما مباشرا أو غير مباشر.

لكن حتى من الداخل، أخفقت الأحزاب والقوى السياسية في بناء نماذج ديمقراطية داخل هياكلها، فالديمقراطية الغائبة ليست فقط في مؤسسات الدولة بل في عظام الأحزاب ذاتها، حيث يتحول رئيس الحزب إلى زعيم أبدي لا يترك موقعه إلا بالموت أو الانشقاق، فلا تداول للقيادة ولا تجديد للدماء ولا آليات واضحة للاختيار والمحاسبة، بل شبكات من الولاء الشخصي والتوريث السياسي والدوائر المغلقة، ولهذا حين تصل هذه الأحزاب إلى السلطة، لا تأتي بثقافة ديمقراطية بل بنموذجها المغلق الموروث، فتعيد إنتاج المنطق نفسه: شخصنة السلطة، إقصاء المخالف، وإدارة السياسة كإقطاع لا كمؤسسة.

والأخطر أن السياسة نفسها في كثير من السياقات العربية لم تعد فنا يمارس بأدواته، بل وظيفة تُشغل بلا فهم عميق، فتحولنا إلى موظفين سياسيين لا ساسة حقيقيين، إذ تقتضي السياسة الحقيقية امتلاك أدواتها: فهم الديمقراطية كمنظومة لا كشعار، إدراك دور المؤسسات لا التحايل عليها، وقراءة الخيارات في سياق التاريخ والمستقبل لا عبر تكتيكات اللحظة، أما السياسة القائمة فقط على النفاق، والمساومات الرخيصة، والتحالفات الهشة، فهي ليست إلا الوجه الآخر للاستبداد، لأنها تعيد احتكار القرار في دوائر ضيقة، وتنتج منظومات هشة لا تصمد أمام الأزمات، فتصبح السياسة لعبة كاذبة، تُدار بلا أخلاق ولا مشروع، بينما تُترك الشعوب تدفع الثمن وحدها.

وأحد أبرز إخفاقات الربيع العربي تمثل في  أن القوى التي تصدرت المشهد تعاملت مع الديمقراطية كوسيلة للوصول إلى الحكم، لا كقيمة لتأسيس نظام جديد، فرشت الديمقراطية على الطريق إلى التمكين، لا كأرضية لبناء نظام مشترك، وما إن أسقطت الأنظمة القديمة، حتى أُعيد تدوير منطق الإقصاء والاستحواذ وكأن شيئًا لم يكن، والأدهى من ذلك أن الأطراف الأخرى، من النخب المثقفة إلى الحركات الثورية إلى المواطنين العاديين، لم يكن لديهم الاستعداد الكافي للتضحية من أجل حماية المسار الديمقراطي، لم تُبن جبهات دفاع ولا قلاع حماية، فجاءت الانقلابات كفرّامات تقطع كل شيء بلا رحمة، وانهار الحلم الوليد تحت سطوة الحديد والنار، ليترك وراءه إحباطًا ثقيلًا وشعورًا بالخيانة والعجز.

وهنا نصل إلى الحقيقة التي لا يحب أحد الاعتراف بها: فشل أمريكا في تصدير الديمقراطية لا يعني أن الديمقراطية وهم مستحيل، لكنه يعني أن الطريق إليها يبدأ من الداخل لا من الخارج، من إعادة تعريف الدولة ككيان تعاقدي يعبّر عن الشعب لا كأداة احتكار، من بناء ثقافة سياسية ترى التعددية كمصدر قوة لا تهديد، من شجاعة القوى السياسية لتقديم تنازلات حقيقية بدل سباق الغنائم، ومن بناء علاقة جديدة مع الخارج، لا تعيد إنتاج الهيمنة باسم حقوق الإنسان ولا تحوّل الديمقراطية إلى غطاء ناعم لاستمرار السيطرة، الديمقراطية ليست صندوق اقتراع ولا دستورا مكتوبا، إنها شبكة معقدة من المؤسسات والثقافة والأخلاق والسياسة، ولا يمكن بناؤها بوصفة جاهزة، بل تحتاج إلى تربية طويلة، وبطء حكيم، وكلفة يتحملها الجميع، وإذا لم يخص هذا المشروع بشجاعة، ستظل الديمقراطية حلمًا مكسورًا، يُولد كل مرة ليموت في مهده، ونبقى ندفع الثمن: حروبا وميليشيات ومجتمعات ممزقة، دون أن نجد يوما فرصة لاستعادة فكرة الوطن المشترك.

https://barran.press/articles/topic/9526