بران.. من عرش بلقيس إلى عرش الصحافة - حكمة مأربية

الأحد 25 مايو 2025 |منذ 5 ساعات
عبدالكريم الخياطي

عبدالكريم الخياطي

لا تزال الصورة حاضرة في ذهني، كأنها بالأمس.. كنا مجموعة من الصحفيين اليمنيين، نعمل بشكل مستقل أو ضمن مؤسسات إعلامية متنوعة، نتنقل بين صحارى مأرب والجوف، نلاحق الوقائع، ونوثّق تفاصيل الحرب، ونعود في المساء إلى فنادق صغيرة "لوكندات"، نحمل معداتنا وكاميراتنا، ونحوّل غرفنا إلى ورش عمل صحفية متواضعة، لكنها غنية بالإصرار والشغف.

كنا نكتب، نمنتج، نعيد الصياغة، نحرر بالصوت والصورة، نبحث عن طريقة ننقل بها حقيقة الحرب. كانت مأرب وقتها مدينة محاصرة في وسط الصحراء، تتكلم باسم اليمنيين جميعًا، مدينة أصبحت رمزية للصمود حين خرس الجميع.

كان لدينا إيمان بأن مأرب تستحق أن تُروى قصتها. لكن في قلب كل ذلك، كان هناك سؤال مؤلم يتكرر داخليًا:

كنت دومًا أتساءل: لماذا يغيب الإعلام عن التفاصيل الصغيرة في مأرب، عاصمة المقاومة؟ لماذا لا يصل صوت المقاومة والمجتمع الذي يتشكل؟ لماذا لا يُسمع صوتهم لكل اليمنيين؟

أين صوت مأرب؟

كنت أطرح هذه الأسئلة على كل من ألتقيهم من قيادات الشرعية: عسكريين، سياسيين، مسؤولين. مأرب ملاذ الجميع، فلماذا لا تُمنح منبرًا يليق بمقامها؟ حتى اكتشفت الإجابة:
إذاعة مأرب مدمّرة، ومعطّلة، لا تمويل، ولا دعم.
منذ استشهاد مؤسسها ومديرها السابق عبد الكريم مثنى، رحمه الله.

في ذلك الوقت، كان الحوثيون يبثّون دعايتهم من عشرات الإذاعات لتصل لكل قرية عبر موجات الـFM، بينما مأرب الصامدة لا تملك صوتًا يسمعه أحد. هذا الفراغ لم يكن تقنيًا فحسب، بل كان فراغًا وطنيًا خطيرًا، يهدد بإضعاف الرواية المقاومة ويترك الجماهير فريسة للتضليل.

من هنا، جاء أول تحرك عملي: أعددت تقريرًا خاصًا لقناة الجزيرة عن حال إذاعة مأرب، بتعاون من الصديقين والزميلين الشهيد عبد الله القادري، والزميل وليد الراجحي. لم يكن مجرد رصد للأضرار، بل صرخة إعلامية دعت الشرعية وكل الجهات لتحمّل مسؤولياتها تجاه الإعلام الشعبي القريب من الناس، الإعلام الذي يُخاطب مأرب وأهلها وضيوفها، وينقل صوتهم إلى كل اليمن.

كان لدي قناعة أنه لا يوجد أفضل من منبر مأربي يعيد الأمل للناس باستعادة الجمهورية المنهوبة. أنجزت التقرير لقناة الجزيرة، وكان بمثابة جرس إنذار. بعده تحرك صحفيون من مأرب ونازحون مبدعون، أنجزوا تقارير، وأطلق البعض دورات تدريبية ومبادرات ومشاريع مستقلة. ومع الوقت، أطلقت جهودهم العنان لافتتاح كلية الإعلام في جامعة سبأ، كخطوة نوعية نحو بناء إعلام محلي مؤسسي.

ولم تتوقف الأمور عند ذلك، فقد نهضت إذاعة مأرب من جديد، واستعادت حضورها وطاقتها، وقدّمت نموذجًا ناجحًا في الإعلام المحلي المقاوم. إلى جانبها، انطلقت مشاريع إعلامية أخرى منافسة.

ومع ذلك، ظل الشعور بأن أمرًا ما ناقص.
مأرب التي تحوّلت إلى نواة الجمهورية الثانية، ظلت بلا منصة إعلامية شاملة تُوازي رمزية المعركة التي تحتضنها.

لكن الحلم لم يمت، بل كان ينضج في صمت.

اليوم، يعود الصحفي الرائع محمد الصالحي، والذي أعرفه منذ أسّس مع الزميل الصحفي القدير أحمد عائض تجربة "مارب برس" التي كانت واحدة من أوسع المنصات اليمنية انتشارًا وتأثيرًا في مرحلة ما قبل الحرب. يعود الصالحي لاستئناف المسيرة، ولكن من زاوية جديدة: من الميدان، من مأرب نفسها، عاصمة المقاومة.

ينضم إليه في هذا المشروع الجديد الزملاء نايف الجرباني، ووليد الراجحي، وآخرون من الصحفيين الشباب الرائعين، ليطلقوا معًا مشروعًا إعلاميًا رائدًا باسم:

بران برس

اختيار الاسم لم يكن عابرًا.

"بران" ليس مجرد اسم، بل هو امتداد لهوية المكان والتاريخ. هو اسم المعبد السبئي العريق الذي كُشف عن تفاصيله تحت رمال مأرب في نهاية ثمانينيات القرن الماضي، حيث كانت بلقيس تكتب تاريخها، كما يكتبه الإعلام اليوم من نفس الأرض.

"بران برس" ليس فقط موقعًا إخباريًا، بل هو منصة إعلامية حديثة شاملة، تقدم محتوى معرفيًا وتحليليًا محترفًا، وتُوظّف التكنولوجيا الحديثة لإنتاج تقارير، تحقيقات، إنفوغرافيك، موشن جرافيك، بودكاست، وأفلام وثائقية، باللغتين العربية والإنجليزية.

إنه صوت مأرب، وصوت اليمنيين، بعيون أبنائها ومن قلب مقاومتها.

لقد بدأ الحلم من غرف صغيرة في فنادق مأرب، لكنه اليوم يتجسد في مشروع إعلامي وطني، يعكس أصالة الأرض، وصدق الرواية، وإرادة الانتصار.

https://barran.press/articles/topic/9535