برّان برس - وحدة التقارير:
لم يكن “محسن الوصابي”، البالغ من العمر 34 عامًا يتخيّل يوماً أن انفجارًا غامضًا في الحي الذي يسكنه سيسلبه منزله وجميع أفراد أسرته دفعة واحدة، ويحوّل أحلامه وحياته إلى رماد. فبعد أن أمضى خمس سنوات في بناء منزل متواضع في حي صرف شرق العاصمة صنعاء، وجد نفسه فجأة بلا أسرة ولا مأوى ولا حتى عزاء.
في 22 مايو/أيار 2025، دوّى انفجار عنيف في حي صرف، تبيّن لاحقاً أنه ناجم عن انفجار مخزن أسلحة سرّي تابع لجماعة الحوثي، كانت قد وضعته وسط الحي الآهل بالسكّان، وتحديدًا بين خشم البكرة وصرف.
مساحة تأثير الانفجار تجاوزت 60 متراً من مركزه، ونتج عنه مقتل وإصابة 150 شخصًا، وتدمير أو تضرر نحو 100 منزل، وثمانية محال تجارية، و30 مركبة.
كان منزل “الوصابي”، الذي بناه بعد سنوات من الشقاء في بيع القات، من بين المنازل الأقرب إلى مخزن الأسلحة الذي انفجر. وفي هذه الحادثة المروّعة، تدمّر منزله، وقتل أفراد أسرته؛ زوجته وأطفاله السبعة لم ينجُ منهم أحد.
رغم إدراكها لخطورة ما تقوم به، إلا أن الجماعة المصنفة عالميًا بقوائم الإرهاب، لم تنذر السكان، ولم تُخلهم حفاظًا على أرواحهم، بل اتخذتهم ومنازلهم كدروع بشرية في حروبها الداخلية والخارجية المستمرّة منذ عقد.
وفق تحقيق أجرته منظمة “سام” للحقوق والحريات، فإن مساحة تأثير الانفجار تجاوزت 60 متراً من مركزه، ونتج عنه مقتل وإصابة 150 شخصًا، وتدمير أو تضرر نحو 100 منزل، وثمانية محال تجارية، و30 مركبة.
قمع وتكتيم
فور وقوع الانفجار، فرضت جماعة الحوثي طوقاً أمنيًا مشددًا على الموقع، وعزلت الحي كليًا عن المحيط، ومنعت حتى ذوي الضحايا من الاقتراب أو معاينة الأضرار. وفق مصادر محلية، فإن المنطقة شهدت انتشارًا مكثفًا لمسلحي الجماعة، حيث أقاموا نقاط تفتيش، وأغلقوا كافة المداخل المؤدية إلى موقع الانفجار.
اعتبرت المصادر هذه الإجراءات محاولة واضحة لطمس معالم الجريمة، وإرجاعها إلى غارات العدوان الخارجي. مشيرين إلى أن هذه المحاولات والإجراءات لا تلغي شهادة سكان الحي الذين شاهدوا الصواريخ وهي تنطلق من المخزن. موضحين أن أحد هذه الصواريخ سقط على محل بنشر جوار محطة شركة النفط بمنطقة صرف.
أحد سكان حي صرف، انتقد تعامل جماعة الحوثي مع الضحايا بلا أدنى حس بالمسؤولية أو الإنسانية، حيث فرضت تعتيمًا شاملًا، وهددت كل من حاول توثيق الحادثة أو نشر تفاصيل حولها
صادق جمال، أحد سكان حي صرف، وصف ما حدث بأنه شكل من أشكال العقاب الجماعي، واعتبره تحقيرًا متعمدًا لأرواح المواطنين، واستهتارًا بممتلكاتهم. وانتقد جمال، في حديثه لـ“بران برس”، تعامل جماعة الحوثي مع الضحايا “بلا أدنى حس بالمسؤولية أو الإنسانية”، مضيفًا أنها فرضت “تعتيمًا شاملًا، وهددت كل من حاول توثيق الحادثة أو نشر تفاصيل حولها”.
وفي إطار التعتيم، قال “جمال”، إن الجماعة “صادرت هواتف بعض المواطنين الذين وثّقوا الانفجار، واعتقلت آخرين لمجرد مشاركتهم صورًا للحادثة على منصات التواصل الاجتماعي”.
وكانت مصادر حقوقية قد أشارت لهذا التكتم باعتباره جزءًا من نهج الحوثيين في التعامل مع الكوارث التي يتسببون بها، موضحة أنها تسعى من خلاله للتحكم بالرواية الإعلامية، ومنع أي دليل قد يُستخدم لإدانتها.
لا دفن لا عزاء
يقول “الوصابي”، لـ“بران برس”، إن جثامين أفراد أسرته، والضحايا من عشرات الأسر الأخرى المتضررة في الحادثة نقلوا إلى ثلاجة المستشفى الجمهوري، وسُجّلت هناك بين جثث ضحايا آخرين.
“الوصابي”، رفض استلام جثامين أفراد أسرته، ومواراة جثثهم “قبل أن تعترف جماعة الحوثي بمسؤوليتها، وتقدّم تعويضًا عادلاً عن هذه الخسارة الفادحة“. وقال: “جثامين أسرتي لا تزال في ثلاجة المستشفى، ورفضتُ استلامهم ودفنهم قبل أن يُعترف بأنهم قُتلوا ظلماً، ويعرف العالم حقيقة ما جرى، ويتم تعويض الضحايا.
رفض الوصابي استلام جثامين أفراد أسرته، ومواراة جثثهم قبل أن تعترف جماعة الحوثي بمسؤوليتها، وتقدّم تعويضًا عادلاً عن هذه الخسارة الفادحة
وأكّد أن مطالبه وأسر الضحايا الآخرين تتمثل بفتح تحقيق رسمي في الحادقة, واعتراف الجماعة الحوثية بـ“الجريمة” التي قال إن الجماعة قابلتها بـ“تجاهل تام”. مضيفًا أن جماعة الحوثي “لم تكتفِ بإنكار مسؤوليتها عن الجريمة، بل رفضت تقديم أي تعويضات للضحايا أو حتى الاعتراف بحجم المأساة”.
شقيق أحد ضحايا هذا الانفجار “ت.غ”، قال إن الجماعة لم تكتفِ برفض تعويض الضحايا، بل وجهت أوامر صارمة لأهالي المنطقة بعدم إقامة مراسم عزاء لذويهم. مضيفًا لـ“بران برس” أنها منعتهم حتى من زيارة الضحايا.
طمس معالم الجريمة
مع تزايد سخط ذوي الضحايا، ومطالبتهم بالتعويض، قالت مصادر محلية إن جماعة الحوثي استقدمت جرافات “شيول” إلى المنطقة، وبدأت بإزالة الركام، وإجراء إصلاحات شكلية في بعض المنازل المتضررة. مشيرين إلى أنها تهدف لتهدئة الأهالي، وكسب الوقت لإسكات الأصوات الأخرى عبر التهديد أو الوعود الكاذبة بالتعويض.
وفق المصادر فإن ما قامت به الجماعة لم يكن إعادة إعمار بالمعنى الإنساني أو المعماري، وإنما أقرب لإعادة ترتيب للأنقاض، حيث اكتفت ببناء الجدران وإغلاق الأسطح، وهو ما يعد أشبه بإسقاط واجب وإخلاء مسؤولية.
عمليات الإزالة لم تكن لأغراض إنسانية بل تمت تحت إشراف عناصر أمنية وبهذا فإن الهدف واضح وهو محو كل ما يشير إلى أن ما حدث نتيجة تخزين غير قانوني للأسلحة داخل حي سكني
من جانبه، قال "الوصابي"، في حديثه لـ“بران برس”، إن الجرافات بدأت العمل قبل إجراء أي تحقيق محايد أو حتى توثيق رسمي لحجم الأضرار. وأضاف متهمًا الحوثيين بطمس الجريمة قائلًا: لم تُرفَع أنقاض الجريمة، بل دُفنت.
من جانبه، أكّد الناشط المجتمعي “ع، الكندي”، لـ“بران برس”، أن عمليات الإزالة لم تكن لأغراض إنسانية، بل تمت تحت إشراف عناصر أمنية. وبهذا قال إن الهدف واضح: “محو كل ما يشير إلى أن ما حدث نتيجة تخزين غير قانوني للأسلحة داخل حي سكني”.
يضيف “الكندي”، أن هذا الإجراء من أساليب الحوثيين المتكررة في التعامل مع الحوادث المماثلة، والتي قد تُشكل عليهم ضغطا قانونيًا أو إعلاميًا، حيث يسارعون إلى تدمير الأدلة قبل وصول أي جهة محايدة أو حقوقية.
جريمة حرب
عن هذه الحادثة، قال مدير مكتب حقوق الإنسان بأمانة العاصمة، فهمي الزبيري، لـ“بران برس” إن “ما حدث في صرف ليس حادثًا عرضياً، بل يندرج ضمن جرائم الحرب”، محمّلًا جماعة الحوثي المسؤولية القانونية الكاملة عن مقتل أسرة الوصابي، سواء بصفتها سلطة أمر واقع أو جهة استخدمت أعيانًا مدنية لأغراض عسكرية.
مدير مكتب حقوق الإنسان بأمانة العاصمة، فهمي الزبيري، لـ“بران برس”: ما حدث في صرف ليس حادثًا عرضياً، بل يندرج ضمن جرائم الحرب
وأكّد الحقوقي "الزبيري"، الأحقية القانونية للضحايا بالمطالبة بتعويض شامل عن الأرواح والممتلكات. داعيًا لتوثيق مثل هذه الجرائم من أجل رفعها مستقبلاً إلى المحكمة الجنائية الدولية أو لجان التحقيق الأممية الخاصة باليمن.