أبوبكر سالم.. صوتٌ خالد في ذاكرة الأجيال
صالح الحكمي
في عالم الفن العربي، حيث تلتقي الألحان والكلمات لتسكن في أرواحنا، يظل اسم "أبوبكر سالم" واحداً من أبرز الأيقونات التي لا يمكن نسيانها. هو ذلك الفنان الذي امتزج فيه الصوت العذب مع عمق التجربة الإنسانية، ليصبح صوته أيقونة للحن والحكمة، ومرتبطاً في ذاكرة الجمهور العربي بمزيج من الجمال الفني والرسالة الإنسانية العميقة.
أبوبكر سالم، الذي ولد في حضرموت في اليمن، حفر اسمه في ذاكرة الأجيال ليس فقط من خلال أغانيه، بل من خلال مواقفه الإنسانية التي جعلته رمزاً للفن الرفيع والموقف النبيل. لم يكن مجرد فنان، بل كان شاعراً حقيقياً ومتذوقاً للأدب العربي، يحمل في صوته معاناة الشعوب وأحلامهم، وتطلعاتهم إلى عالم أفضل. في أغانيه، كان يعبّر عن الحب والأمل، كما كان يعبر عن الألم والظلم، وكان دوماً في صف الإنسان المقهور، مدافعاً عن قضايا وطنه والإنسانية جمعاء.
في أغنيته الخالدة "أنتي وين"، التي أبدع فيها، نجد صدى صادقاً لقلوبنا المشتاقة، تلك القلوب التي تنبض بحب الوطن، ولكنها أيضاً ممزقة بالحزن والقلق على مصيره. في تلك الأغنية، يسأل فنانا العظيم عن المكان الذي غابت فيه الحبيبة، وتبدو كلماته وكأنها تساؤلاتنا نحن، ونحن نبحث عن (اليمن) بين الركام والدموع، في زمن ضاعت فيه معالم الوطن، وتاهت فيه الطمأنينة. "أنتي وين؟" هو السؤال الذي يخرج من أفواهنا ونحن نرى بلادنا الحبيبة في حالٍ من التشظي والخذلان وقد عبثت بها مطايا إيران ودمرت كل ماهو جميل فيها، مثلما يسأل (أبوبكر) في أغنيته عن الحبيبة المفقودة، نجد أنفسنا نسأل عن بلادنا، عن تلك الأرض التي كانت يوماً موطناً للسلام والأمل، ثم أصبحت اليوم صورة مكسورة، يتلاشى فيها الأمل كما يتلاشى الصوت في الرياح. وكأننا نصرخ في أغنيتنا الخاصة: "أنتي وين؟ يا يمن، أين أمانك، أين عزك، أين شعبك الذي كان يعيش على ضوء الفجر؟!تلك الكلمات تلامس واقعنا المُؤلم، وتذكرنا بما فقدناه من حب وطمأنينة، حين باتت اليمن في قلب كل منا غائبة، ونحن نبحث عنها في كل زاوية، في كل لحظة، وفي كل حلم.
وبالتعريج على أغانيه فلا يمكن أن نتجاوز أغنية "من يشبهك من" كيف لا!؟ وهي واحدة من أروع وأعمق الأعمال الفنية التي أبدع فيها الفنان الراحل، ليست مجرد أغنية عن الحب والفقد، بل هي قصيدة من الحنين العميق إلى وطنه اليمن، التي كان يُحسن التعبير عنها بكلماتٍ تلتمع فيها الشوق والمرارة. في هذه الأغنية، لا يتساءل فنانا الراحل فقط عن الحبيب الذي فقده، بل يُناجي وطناً بأسره، ويقول: "من يشبهك من؟" وكأن السؤال موجه إلى (اليمن) نفسها، التي كانت في قلبه وروحه، فمهما تباعدت المسافات أو تشتتت الظروف، كانت (اليمن) هي الحلم الذي لا يموت، والمكان الذي لا يشبهه أحد.
في هذه الكلمات، يكمن الحزن العميق على وطنٍ كان يعيشه في قلبه، وفي صوته الذي يشبه صدى الجبال والوديان. أبوبكر سالم في "من يشبهك من" لا يغني عن شخص واحد فقط، بل عن وطنٍ بأسره، عن اليمن التي كانت في ملامحه وأغانيه، والتي ظل يرددها في كل نغمة كما يردد العاشق اسم حبيبته. "من يشبهك من؟" هو سؤال يتجاوز المعنى التقليدي، ليصبح رمزاً للوجع الذي يشعر به كل يمني في الشتات، وكل مغترب يبحث عن وطنه بين يديه، في عيون الآخرين، وفي الأماكن التي لا تشبهه.
ولا يفوتني والذكرى السابعة لرحيله تمر علينا بصمت مع تصاعد الأحداث في المنطقة وبلوغها الذروة أستذكر بعضا من مواقفه، تلك التي شهدها في السنوات الأخيرة من حياته، حيث كان داعماً كبيراً للقضية الفلسطينية، وكان دائمًا يردد في لقاءاته أن "فلسطين في القلب" وأن "القدس عربية". لم يكن يتردد في استخدام فنه كمنصة للتعبير عن آرائه في القضايا المصيرية، وكان دائمًا يصر على أن الفن يجب أن يكون وسيلة للتغيير الاجتماعي والسياسي، وليس فقط للترفيه.
يبقى أبو أصيل أحد أعظم الأصوات التي مرّت على تاريخ الفن العربي، بل أيقونته الماسية، في صوته، تجد القوة والضعف، الأمل واليأس، الحلم والواقع. كان ولا يزال ذلك الصوت الذي لا يمكن أن يُمحى من ذاكرة الأجيال، وكان الكلمة التي لا تزال تتردد في أرجاء الوطن العربي، كأنها تنبض بالحياة. ترك أبوبكر سالم بصمة لا تُنسى في ذاكرة الفن العربي، وصوتًا خالداً سيظل تتردد أصداؤه في قلوب محبيه إلى الأبد.
وفي النهاية، وإذ لابد من نهاية لكل موجودات هذا الكون كسنة إلهية، فإن رحيل "أبوبكر سالم" لم يكن نهاية بل بقي حياً في قلوبنا صوتاً وفكرة ، أبوأصيل الذي ملأ الأفق نغماً وأضاء القلوب لحناً، قد رحل عن عالمنا، وأصبحنا نكتب عن ذكرى رحيله المؤلم، لقد رحل الأيقونة تاركاً خلفه فراغاً عميقاً لا يمكن أن يملأه غير صوته، ولا يمكن أن تعوضه أي كلمات. كان صوته هو الوطن، وكان كل لحنٍ منه هو نبض الحياة. رحيله ليس مجرد غياب جسد، بل هو غياب روحٍ كانت ترفرف فوقنا، تبث فينا الأمل، وتذكّرنا دائماً بالجمال الذي يمكن أن يصنعه الفن إذا صدق. لم يكن فناناً عابراً، بل كان الحضور الفخم في الذاكرة، عطراً لا يزول، وصوتاً لا يتلاشى. لذلك ونحن نقف على أطلال الذكرى، يمكنني القول إن رحيله قد تركنا في حالة من الحزن لا تنتهي، فنحن فقدنا صوتا كان يحمل بين طياته كل آمالنا وأوجاعنا. لكن رغم ذلك، ستظل أغانيه تسكن فينا، ترددها الأجيال القادمة كما كنا نرددها في أيامه. أبوأصيل يا من كنتَ أكثر من فنان، ستظل حياةً وأملاً وذكرياتٍ لن تموت، ستبقى دائماً في قلوبنا، في كل نغمة، وفي كل كلمة، وفي كل لحظة من لحظات الحب والحنين التي سطرها فنك. من يشبهك يابوأصيل من؟ من يشبهك من؟.