|    English   |    [email protected]

البكائيات والتقديس في تأبين نصر الله.. تحليل نفسي واجتماعي

الأحد 23 فبراير 2025 |منذ 4 ساعات
توفيق الحميدي

توفيق الحميدي

في مشهد لافت، وصلت قيادات حوثية إلى بيروت للمشاركة في دفن حسن نصر الله وهي تذرف الدموع بحرقة. لم يكن هذا المشهد مقتصرًا على الحوثيين، بل شهدنا تعبيرات مماثلة في اليمن والعراق ولبنان، حيث بدا الحدث وكأنه أكثر من مجرد وداع لزعيم سياسي، بل تحول إلى طقس ديني ومشهد يعكس طبيعة العلاقة العاطفية بين الجماهير وقادتهم. فلماذا تتكرر هذه الظاهرة؟ وما الذي يجعل الجماعات الشيعية تعيش مثل هذه الحالات من التقديس المبالغ فيه؟

التقديس في هذه الحالة ليس مجرد عاطفة عفوية، بل هو تعبير نفسي عن حالة القهر الاجتماعي والسياسي التي تعاني منها هذه الجماعات. يوضح مصطفى حجازي في كتابه “الإنسان المقهور” أن المجتمعات التي تتعرض للقمع المستمر تطور آليات دفاعية نفسية لتعويض إحساسها بالعجز، وأحد أبرز هذه الآليات هو إعلاء القادة إلى مصاف القداسة، بحيث يصبحون رمزًا للتعويض عن الإحباط الجماعي ، وهذا يقدم تفسير اولي علي الاقل لسلوك الخضوع والتقديس الذي نستغربه  في خطاب الكثير من قيادات الحوثي تجاه عبدالملك الحوثي واهل بيته  ، التي تلقت سردية القهر والعجز  لاحل تحفيز كوامن القهر  الحقد معا في عقولهم. 

فالبناء النفسي للشخصية المقهورة داخل الجماعة تتشكل على أساس الشعور بالدونية، مما يجعل الفرد يرى نفسه تابعا للقائد او المشرف لا فاعلا في المجتمع او التاريخ ، حيث يصبح الزعيم حصن يحمية ، ملجأ يأوي اليه ، ويوقن انه لا قيمة لذاته بدون هذا الزعيم ،  وفي حين اصابة هذا الزعيم ، يصبح البحث عن زعيم قوي حاجة نفسية، وليس فقط سياسية. التفكير العاطفي يتغلب على التحليل النقدي، مما يعزز حصانة الجماعة ضد أي محاولة لتفكيك خطاب التقديس.

فالجماعة تشعر بفقد كبير ، وتهديد وجودي ، مما يجعل  لاستسلام العاطفي ينعكس في الشعور الجماعي بالبحث عن مخلّص. يقول مصطفى حجازي: "القهر يحطم الفاعلية الفردية ويجعل الإنسان يعيش على أمل الخلاص، لكنه لا يبحث عن الخلاص في ذاته بل في من يُقدّم له هذا الخلاص على طبق من ذهب." في هذا السياق، يُعاد إنتاج السرديات الدينية التي تُقدّم القادة على أنهم مبعوثون لتحقيق العدل الإلهي، مما يجعل ولاء الجماهير لهم مطلقًا وغير مشروط.

البكائيات ليست مجرد مشاعر فردية، بل هي أدوات ضبط جماعي. فالطقوس مثل اللطم والبكاء الجماعي تؤدي إلى تعميق الانتماء وتعزيز الشعور الجماعي بالمظلومية. وفقا لفرويد في "علم نفس الجماهير"، هذه الطقوس تسهم في تفريغ نفسي، لكنها أيضًا ترسخ سيطرة القائد الجديد  باعتباره المرجعية العاطفية الأولى. يقول فرويد: "الجماهير تفقد إحساسها بالمسؤولية الذاتية حين تصبح جزءًا من الكتلة العاطفية، مما يجعلها أكثر طواعية للرموز التي تقدم لها كقادة أو منقذين."

بكائيات اللطم ليست مجرد تقليد ديني، بل هي آلية لإعادة إنتاج الهوية الجمعية وترسيخ الإحساس بالمظلومية الجماعية. هذا النمط يفسر لماذا تتحول خطب القادة مثل حسن نصر الله وعبدالملك الحوثي  إلى مناسبات لإعادة شحن المشاعر الجمعية وتعزيز الولاء.

التربية الطائفية تلعب دورًا أساسيًا في تشكيل هذه العقلية. يشير مصطفى حجازي في "الإنسان المهدور" إلى أن المجتمعات العقائدية تربي الأفراد منذ الصغر على أنهم تابعون وليسوا فاعلين، مما يؤدي إلى ما يُعرف بـ "هدر الفاعلية الذاتية". في هذا السياق، يتم ترسيخ التبعية منذ الطفولة عبر منظومة تعليمية وإعلامية تركز على فكرة القائد المخلّص.

هذه الظاهرة ليست فريدة من نوعها، بل نجدها في أنظمة أخرى مثل كوريا الشمالية، حيث يتم تصوير الزعيم كإله، أو في التجربة النازية، حيث كان هتلر يعتبر منقذ الأمة، وحتى في بعض الجماعات الإسلامية المتطرفة التي تضع قادتها في مكانة فوق النقد.

الشخصية التابعة تتشكل عبر مراحل تبدأ بالتلقين العاطفي المبكر، ثم القهر الأبوي، ثم البحث عن قائد يملأ الفراغ النفسي، وأخيرًا التضحية الفردية لصالح الجماعة، بحيث يصبح الولاء للقائد أهم من أي قناعة ذاتية.

السؤال الجوهري: هل يمكن التحرر من هذه البنية النفسية؟ يشير مصطفى حجازي إلى أن تفكيك هذه العقلية يتطلب نشر ثقافة النقد الذاتي، وهو امر غير ممكن في وسط هذه الجماعات ، إضافة الى تعليم التفكير التحليلي، وخلق قيادات بديلة تعتمد على الكفاءة بدل الكاريزما العاطفية. إن فهم هذا السلوك ليس مجرد تحليل أكاديمي، بل خطوة ضرورية لفهم كيف تُدار الجماعات العقائدية، وكيف يمكن تحرير الإنسان من دائرة الهدر النفسي والتاريخي.