العفو العام للحوثيين.. شبكة تجسس تهدد الشرعية

لؤي العزعزي
لطالما كانت الحرب ساحة للصراعات العسكرية والسياسية، لكن في اليمن، اتخذت منحىً آخر أكثر تعقيدًا وخطورة. فبينما تنشغل الأطراف المتصارعة في معاركها التقليدية، يبدو أن جماعة الحوثيين قد أتقنت فنًا آخر لا يقل فتكًا، وهو فن الاستخبارات. تجربتي الشخصية، التي عايشت فيها قسوة التنكيل من جميع الأطراف، تؤكد أن ما مارسه الحوثيون يتجاوز حدود القمع المعهود، ليتحول إلى عملية استخباراتية واسعة النطاق تستغل حتى مبادرات "العفو العام" الظاهرية.
في السنوات الأخيرة، أطلقت جماعة الحوثيين ما سمته "عفوًا عامًا"، وأنشأت كيانًا تحت مسمى "المركز الوطني للعائدين". للوهلة الأولى، تبدو المبادرة إيجابية، تهدف إلى تشجيع اليمنيين الذين غادروا مناطق سيطرة الحوثيين على العودة الآمنة. لكن سرعان ما يتكشف الزيف، ليتبين أن هذا "المركز" ليس سوى شبكة تجنيد معلوماتية متقنة.
لقد عدت إلى صنعاء بعد فراق مرير، مدفوعًا ربما بشيء من الأمل أو ربما باليأس. لكن ما استقبلت به لم يكن حضنًا دافئًا، بل سلسلة من الإجراءات الأمنية والاستجوابات المطولة التي تحول العائد إلى مصدر معلومات قسري. فبدلًا من تسهيل العودة، يُجبر القادم على الإدلاء بتفاصيل عسكرية واستخباراتية دقيقة، تُسأل عن أسماء وتكتيكات وانتشار، وكأن العائد تحول بين ليلة وضحاها إلى كنز معلومات استخباراتية.
الأمر لا يتوقف عند هذا الحد. يُطلب من العائد تقديم ضامن، ويُلزم بالحضور الأسبوعي لما يسمى "التتميم" لإثبات الوجود، وكأنه سجين ينتظر مصيره. والأخطر من ذلك، يتم تعميم اسمه على شبكة استخباراتية واسعة في محيطه، لتحويل حياته إلى كتاب مفتوح يراقب فيه كل تحركاته ولقاءاته. وفي نهاية المطاف، يُستدعى العائد ليقف أمام عدسات الكاميرات في مهرجان دعائي رخيص، يُصوّر عودته كانتصار وهمي.
رغم أنني لم أكن جنديًا قط مع أي طرف من أطراف النزاع إلا انهم ضغطوا كثيرا، واستماتوا للحصول على أي معلومة. غير اني اصريت على رفض تزويدهم بأي معلومات لكوني لا أعلم فعلا. ولستُ مجرد صحفيًا وناشطًا حقوقيًا لا أملك سوى قلمي وموقفي، ولم أفعل شيئًا سوى أداء واجبي المهني، إلا أن ذلك عرّضني لمزيد من التضييق وصل إلى حد امتناع عاقل الحارة عن توقيع الضمانة. ولولا تدخل أصدقائي وأبناء المنطقة، لكنت انتهيت في المعتقل الذي تعهدوا بعدم إدخالي إليه إلا بعد التنسيق معهم لضمان عودتي.
لقد عايشت هذا السيناريو بكل تفاصيله، وشعرت بالخنق والضغط النفسي الذي يمارس على العائد. حتى محاولة استغلالي إعلاميًا عبر مقابلة تلفزيونية "ملغمة" لم تنجح بفضل وعيي. هذه التجربة المريرة كشفت لي عن حقيقة مرة: الحوثيون يوظفون "العفو العام" كأداة استخباراتية فعالة لاختراق صفوف الشرعية.
بينما تنشغل مكونات الشرعية بصراعاتها الداخلية، يتفنن الحوثيون في جمع الجبايات، ونهب الموارد، وتعبئة الأنصار، والأهم من كل ذلك، في بناء شبكة استخباراتية قوية ومتشعبة. لقد نجحوا في اختراق العديد من الأجهزة الحكومية، واستغلوا المعلومات التي يتم جمعها من العائدين في استهداف وتصفية معارضيهم.
إننا اليوم أمام عدو لا يقاتل بالرصاص والقذائف فحسب، بل بعقل استخباراتي ماكر. لقد أصبح يمتلك نقاط قوة يجب أن نعترف بها ونتعامل معها بجدية. أولى خطوات المواجهة الحقيقية تكمن في الاعتراف بحجم التحدي، وفهم طبيعة هذا العدو الذي يستحق منا أعلى درجات الوعي والجهوزية. إن "العفو العام" ليس سوى قناع يخفي خلفه شبكة تجسس تهدد بتقويض كل جهود استعادة الدولة.