|    English   |    [email protected]

في وداع أمي

الخميس 22 مايو 2025 |منذ 13 ساعة
عبدالإله البوري

عبدالإله البوري

بعد غياب طويل عن وسائل التواصل ، أعود اليوم بقلب حزين لأكتب عن رحيل أمي ، بقلب موجوع تلقيت خبر وفاتها وأنا في بلاد بعيدة شمال غرب الصين  .

رحلت أمي بعد صراع مع المرض ، غسيل كلوي ، تليف رئوي ، وانسداد وعائي ، وكثيرا من أوجاع الحياة ، وإن كانت الأمرض قد هدت جسدها فإن الحرب قد هدت قلبها مرتين.

في أيام الطفولة ، طالما سمعتها تحكي بمرارة وقهر ودموع قصصا عن معاناتها ، عن معاناة الناس في مطلع الثمانينات أيام حرب الجبهة ، ولم أكن أعلم وأنا أسمع تلك الحكايات بأن الأقدار تخفي حربا أخرى أكثر مرارة .

بعد انسحاب الجبهة من المنطقة دفعت الأسر التي انضم أبنائها الى الجبهة ثمنا قاسيا وكان الدكتور محمد أخي الأكبر رحمة الله عليه قد سافر إلى عدن وانضم إلى الجبهة منذ إن كان طالبا في الإعدادية.

كانت الدولة قد استباحت مزارع القات لكل رفاق الجبهة الذين رحلوا إلى عدن ، تقول أمي ذات يوم وفي وقت الظهيرة استظلت بظل شجرة وغفت غفوة من تعب الحياة فأيقظها ركض الجنود بين الحقول .

رأتهم يتقافزون  إلى جربة (مزرعة) مصلح الحنشلي ظنت أنها نجت من بطشهم ثم التفتت يسارا فرأت مجموعة أخرى من الجنود يتقافزون إلى جربتنا (مزرعتنا) ويكسرون القات .

حاولت منعهم ،صرخت في وجوههم اتقوا الله هذه رزق عيالي لكنهم كانوا بلا مروءة ، استمروا حتى أوقفهم البزي الشهم أحمد الغزير بقوة الرصاص ، وهو مشهد تكرر كثيرا في ذلك الزمن .

وعادة ما تحكي تلك القصص بدموع القهر ، نهاية المطاف لتلك المرحلة كانت قبل مولدي بأربع سنوات ، كانت أمي تعجن عجينها في الديمة (المطبخ ) بالدور الرابع للبيت القديم ، دخلت جدتي نعمة رحمة الله عليهما تخبرها بأن عسكر الدولة في الشارع وسيفجرون  البيت وما حوله من البيوت .
 
وكانت بيوت متقاربة مع بعضها نسميها حاليا (الخرابة) ، في مقدمتها منزل القيادي في الجبهة الوطنية الفقيد اللواء أحمد صالح الحنشلي ومنزل الشهيد علي مصلح الحنشلي ومنزل الشهيد محمد عايض الحنشلي رحمة الله عليهم جميعا .

ورغم استعجال جدتي لكن أمي لم تكن مدركة لمعنى كلمة تفجير فاستمرت في كشح ( وضع) الحطب بالتنور وهي تقول ينتظروا ماعاد يشلوهم الجن .

ثم خرجت على أمل أن تعود لخبز عجينها ، تراجع الناس ، دوى الانفجار ، طار الغبار ، وطارت العجين وطار التنور وطارت الديمة وطارت البيوت ثم طار الجنوب ثم طار الشمال ثم طارت البلاد بكلها .

بعد سبعة وثلاثين عاما من ذلك الغبار وذلك الانفجار كان طقم الحوثيين في مدخل القرية ، وبينما كانوا ينزلون العبوات لتفجير البيت كانت النساء تقنع أمي للخروج منه .

وضِعت العبوات في أركان البيت ، لم تنفجر العبوات لكن قلب أمي هو الذي انفجر من قسوة الأيام ، وما أقسى أن تكون سببا لتحطيم قلب أمك .

وما أشد عبث الحرب وما أغرب تقلبات الزمن فهذه المرة لم تكن التهمة الشيوعية والنزول إلى عدن بل كانت التهمة مأرب والداعشية .

وأمي التي لم تكون شيوعية في مطلع الثمانينات لم تكن داعشية في العقد الأخير من عمرها ، لكنها دفعت الثمن قاسيا قهرا ومعاناة وفزعا من المجهول .

في نوفمبر من العام ٢٠٢١ كانت الحرب على مأرب قد بلغت ذروتها وكان الناس في انتظار سقوط المدينة منهم من كان ينتظر بفرح ومنهم من كان ينتظر بخوف ، وكانت أمي تنتظر السقوط بحزن شديد .

حينها اتصلت لأطمئن على صحتها ، أجابتني قائلة ( أنا في كل ليلة  أمسي ساجدة طول الليل أدعي ربي أنهم يقتلوك ما يمسكوك ، مادام يا ولدي قد بيدخلوا مأرب ما عاد انصحك تهرب ولا أنت راضي تهرب لكن أسأل الله أنه يفرحني بقتلك ولا يفزعني بأنهم يمسكوك ) .

وأن تطيل أمي سجودها في جوف الليل تسأل الله أن يفرجها عليها ويفرحها بخبر مصرعي فذلك أقسى ما تصنعه الحرب في قلوب الأمهات .

ويوم أن نجوت من الأسر المحقق أكثر من ثلاث مرات ، لم يفصلنا عن قبضة العدو سوى دقائق وأمتار ، لعل دعوتها كانت وراء تلك النجاة ولعل الزملاء يتذكرون ذلك جيدا   .

كانت لها أمنية أخيرة أن نلتقي قبل رحيلها لكنه القدر الذي لا مفر منه ، رحلت في أجلها المعلوم ، فرحمة الله عليها وعلى والدي وأسكنهما فسيح جناته وإنا لله وإنا إليه راجعون .