|    English   |    [email protected]

من رماد الإمامة إلى شمس الجمهورية.. 26 سبتمبر في ذاكرة اليمنيين

الثلاثاء 17 سبتمبر 2024 |منذ شهرين
د. محمد مفتاح

د. محمد مفتاح

في الذكرى الـ 62 لثورة 26من سبتمبر 1962م، نسترجع تاريخًا طويلًا من النضال والكفاح الذي خاضه الشعب اليمني لنيل حريته واستعادة كرامته. لم يكن ذلك اليوم مجرد تاريخ عابر في سجل الأمة؛ بل كان نقطة تحول غيرت مجرى التاريخ اليمني تمامًا، لتصبح الثورة حجر الزاوية الذي بُنيت عليه جمهورية جديدة قائمة على أسس الحرية والعدالة والمساواة. ولأهمية هذه الثورة، لا بد أن نفهم تفاصيلها العميقة، ونغوص في جذورها السياسية والاجتماعية والثقافية، وكذلك نستوعب الدروس المستفادة منها في ضوء التحديات التي يواجهها اليمن اليوم.

النظام الإمامي: مظاهر الاستبداد وتكميم الأفواه
قبل ثورة السادس والعشرين من سبتمبر، كان اليمن يرزح تحت حكم إمامي استبدادي يقتات على التمييز الطائفي والعرقي، حيث كان النظام الإمامي يحكم البلاد بقبضة من حديد، مسيطرًا على مقدرات الدولة، ومغرقًا البلاد في ظلمات الجهل والتخلف. كان هذا النظام يعتمد على الموروث الديني المغلوط، الذي جعل الإمام يتمتع بسلطة مطلقة لا تخضع لأي مساءلة أو مراجعة. وكانت الخرافات الدينية والأفكار الرجعية جزءًا من الأدوات التي استخدمها الأئمة في فرض هيمنتهم، حيث ساد في المجتمع اليمني الاعتقاد بأن الإمام شخص مقدس لا يمكن المساس به، وأن الحكم الوراثي الإمامي هو "قدر إلهي" يجب أن يخضع له الجميع.
في ظل هذا الحكم، تزايدت الفجوة بين الحاكم والمحكوم، حيث استأثرت النخبة الحاكمة بكل الموارد الاقتصادية، بينما غرق الشعب في الفقر والجهل. لم يكن التعليم متاحًا لعامة الناس، بل كان مقتصرًا على النخبة الدينية والسياسية. وقد أدى ذلك إلى شلل شبه كامل في التطور الفكري والاجتماعي، حيث عزل النظام الإمامي اليمن عن التطورات التي شهدها العالم خلال تلك الفترة، وخصوصًا في المنطقة العربية، التي كانت تشهد نهضة فكرية وثقافية وسياسية.

ثورة سبتمبر: شرارة التحرر وبداية التحول
وسط هذا المشهد القاتم، انبثقت ثورة 26 من سبتمبر كمحاولة لكسر هذا النمط القاتم من الحكم، ولإعادة الأمل إلى الشعب اليمني الذي ظل مكبلًا بأغلال الاستبداد لقرون. الثورة لم تكن مجرد انفجار شعبي غير منظم، بل كانت نتاج تراكمات طويلة من الوعي الوطني، والتأثر بحركات التحرر العربية التي كانت تجتاح المنطقة في تلك الفترة. لقد جاءت الثورة كصرخة قوية من الشعب اليمني ضد الظلم، وضد الحكم الذي سلبهم حقهم في الحياة الكريمة.
في 26 سبتمبر 1962، اندلعت الثورة بمشاركة قادة عسكريين ووطنيين، مدعومين بتأييد شعبي واسع. كان الحدث الأبرز في هذه الثورة هو إعلان ميلاد الجمهورية العربية اليمنية، وإسقاط النظام الإمامي الذي ظل متجذرًا لعقود طويلة. حملت الثورة معها شعارات العدالة والمساواة والحرية، ووعدت بتحقيق نظام حكم جديد يقوم على مبدأ الشراكة الوطنية بعيدًا عن التمييز الطائفي أو العرقي.

الجمهورية: تحديات البناء والصراع مع الرجعية
بعد نجاح الثورة وإسقاط النظام الإمامي، بدأ اليمنيون في مواجهة تحديات جديدة تتعلق ببناء الدولة الحديثة. كانت التحديات ضخمة على كافة الأصعدة؛ فالبنية التحتية كانت متهالكة، والمجتمع كان يعاني من تفشي الأمية والجهل، فيما كانت النخب الجديدة التي قادت الثورة تواجه محاولات متواصلة من قوى الرجعية لاستعادة السلطة.
أصبح واضحًا أن الثورة لم تكن نهاية المعركة؛ بل بداية لمرحلة جديدة من الصراع المستمر. لقد واجهت الجمهورية العربية اليمنية الوليدة حروبًا أهلية وانقلابات داخلية، ومحاولات متواصلة من فلول النظام الإمامي لاستعادة السيطرة على الحكم. ورغم كل ذلك، ظل اليمنيون متمسكين بمكتسبات الثورة، وأصروا على الدفاع عن الجمهورية في مواجهة كل التحديات، سواء كانت داخلية أو خارجية.

مأرب: حصن المقاومة وحامية الجمهورية
من بين كل المناطق اليمنية التي شهدت صمودًا بطوليًا ضد مشاريع الارتداد الإمامي، تبرز مأرب كرمز حقيقي للمقاومة الشعبية وحامية لمبادئ الثورة والجمهورية. كانت مأرب ولا تزال قلعة شامخة، عصية على الاستسلام، وحصنًا منيعًا ضد كل محاولات مليشيا الحوثي لإعادة عقارب الساعة إلى الوراء.
في عام 2015، وفي ظل اجتياح المليشيات الحوثية لعدد من المدن والمحافظات اليمنية، أسست قبائل مأرب "المطارح"، تلك الأماكن التي اجتمعت فيها القبائل للدفاع عن أرضها وكرامتها، ورفضت الخضوع للمشروع الإمامي الجديد الذي سعت المليشيا الحوثية لإرسائه. هذه القبائل، التي تحمل إرثًا تاريخيًا طويلًا في مواجهة كل محاولات السيطرة والهيمنة، شكّلت سدًا منيعًا في وجه التوسع الحوثي، وأعادت تذكير العالم أن مأرب ليست مجرد محافظة، بل رمزٌ للصمود والعزة.
لقد كان لرجال مأرب وقبائلها دورٌ محوري في الحفاظ على مكتسبات الثورة اليمنية، حيث وقفت هذه القبائل كالبنيان المرصوص في وجه كل محاولات اختراق نسيجها الاجتماعي. وقد خابت آمال المليشيات الحوثية في الرهان على تفكك القبائل أو تراجعها، بل بالعكس، تعززت وحدتها وتماسكها، لتصبح مأرب نموذجًا حيًا للوحدة الوطنية والإرادة الصلبة في مواجهة الطغيان.

دور وجهاء محافظة مأرب ممثلاً بالشيخ سلطان العرادة: امتداد لروح ثورة 26 سبتمبر
على مرّ التاريخ، كانت الثورات شعلة متقدة في وجدان الشعوب، تعيد تشكيل مصير الأمم، مثلما تتعاقب الفصول. هذه الثورات ليست مجرد أحداث عابرة في صفحات الماضي، بل هي أنفاس نابضة تواصل مسيرتها في الحاضر. هكذا كانت ثورة 26 سبتمبر اليمنية؛ ثورة كُسرت فيها قيود الظلم وفتحت أبواب الحرية. قادها رجال من ذهب، أناروا للأجيال طريق الكرامة والجمهورية، ومن هؤلاء القادة الشيخ سلطان العرادة، الذي يمثل اليوم امتدادًا لهذا الإرث الثوري في محافظة مأرب.
لم تكن ثورة 26 سبتمبر مجرد انقلاب على نظام بائد، بل كانت انفجارًا للروح الوطنية التي اشتعلت في صدور قادة الثورة، مثل القاضي عبد الله السلال ورفاقه الذين حملوا راية التحرير، وواجهوا الطغيان، ليس بأدوات الحرب فحسب؛ بل بأرواحهم المؤمنة بأن الجمهورية ليست نظامًا سياسيًا فقط، بل مشروع حياة يُحرر الإنسان ويمنحه حق تقرير مصيره.
بعد عقود من تلك اللحظة التاريخية، تقف محافظة مأرب على حافة مشابهة، تواجه ذات القوى الرجعية التي تسعى لإعادة عقارب الزمن إلى الوراء واستعادة عهود الظلم والطغيان. وفي هذه المعركة، برز الشيخ سلطان العرادة كقائدٍ استلهم روح ثورة سبتمبر، رافعًا لواء الدفاع عن الجمهورية في وجه المليشيات الحوثية التي حاولت إخضاع مأرب. لم تكن مواقف العرادة مجرد معركة عسكرية؛ بل كان نضالاً من أجل الهوية والقيم الوطنية. فمأرب، التي كانت دائمًا رمزًا للمقاومة في قلب اليمن، تستمر اليوم في أداء دورها المحوري في الدفاع عما بُني بدماء الثوار.
 مواقف الشيخ العرادة تعتبر تجسيدًا لرؤية وطنية شاملة، حيث التف المأربيون حوله كما التف اليمنيون حول قادتهم الثوريين في 26 سبتمبر.

المقاومة الشعبية: من المطارح إلى ميادين القتال
لقد مثلت "المطارح" نواة للمقاومة الشعبية، وهي التي انطلقت منها الشرارة الأولى لرفض العدوان الحوثي في عام 2015. ولم تكن هذه المطارح مجرد أماكن جغرافية؛ بل كانت رمزًا للتكاتف القبلي والتلاحم الشعبي في مواجهة عدو مشترك. في تلك اللحظات المصيرية، لم يكن لأبناء مأرب وقبائلها خيار سوى الدفاع عن كرامتهم وعن جمهوريتهم. وكما أسس الأبطال الأولون لثورة سبتمبر عام 1962، استلهمت مأرب روح تلك الثورة لتقف مرة أخرى في وجه مشروع الإمامة الطائفي.
لم تكن المطارح –فقط- مواقع دفاعية، بل هي كانت امتدادًا للتاريخ المقاوم لليمنيين ضد كل أشكال الاستبداد. لقد تحولت هذه المطارح إلى خطوط أمامية للقتال ضد المليشيات الحوثية، حيث تدفقت القبائل للدفاع عن مأرب، تمامًا كما فعل أجدادهم من قبل في الدفاع عن الجمهورية ضد الإمامة.

مأرب: حجر الزاوية في الدفاع عن الجمهورية
منذ بداية الهجوم الحوثي على مأرب، كانت هذه المحافظة على مرمى طموحات الجماعة الحوثية التي ترى فيها مفتاحًا للسيطرة على باقي المحافظات اليمنية. لم تكن مأرب مجرد هدف استراتيجي لجماعة الحوثي؛ بل كانت في نظرهم الرمز الأكبر للمقاومة الجمهورية. إن سقوط مأرب كان سيعني انهيار الروح الثورية والمقاومة، ولذلك بذلت الجماعة الحوثية كل ما بوسعها لتحقيق هذا الهدف.
لكن مأرب كانت أكبر من كل الطموحات الحوثية، فقد خابت مساعيهم أمام وحدة القبائل وتماسك الجبهة الشعبية. لقد واجهت مأرب سنوات طويلة من القتال المستمر، تحملت خلالها أعباءً كبيرة، ولكنها لم تتراجع. وبفضل التضحيات الجسام التي قدمها أبناء مأرب، استمرت هذه المحافظة في الحفاظ على طابعها الجمهوري، وصمدت كرمزٍ للإرادة الشعبية الحرة.

دور الأحزاب السياسية"
في هذا السياق العظيم، ونحن نعيش أجواء الاحتفاء بذكرى 26 سبتمبر المجيدة، لا بد أن نستذكر الدور البطولي للأحزاب السياسية في الدفاع عن الجمهورية والشرعية، حيث كانت محافظة مأرب ساحة للصمود والمواقف الوطنية الراسخة. وفي مقدمة هذه المواقف، يأتي الدور الرائد الذي اضطلع به المؤتمر الشعبي العام بقيادة الشيخ عبد الواحد القبلي، رئيس المؤتمر الشعبي العام في مأرب، الذي سطر صفحات ناصعة من التضحية والتفاني.
لقد كان موقف قيادة المؤتمر في مأرب بقيادة الشيخ القبلي موقفًا تاريخيًا لا يُنسى، إذ وقفوا جنبًا إلى جنب مع القوى السياسية والوطنية للدفاع عن اليمن وثورته المجيدة، متمسكين بمبادئ الجمهورية وشرعية الدولة. لقد شكل هذا الموقف ترجمة صادقة للإرادة الشعبية الصلبة التي لا تلين أمام المؤامرات والتهديدات التي تحاك ضد الوطن، مؤكدين على وحدتهم في وجه التحديات.
إن مواقف المؤتمر وقيادته لم تكن مجرد كلمات أو شعارات، بل كانت مواقف تعكس الولاء الحقيقي للوطن، وتجسد الإصرار على حماية مكتسبات ثورة 26 سبتمبر العظيمة، التي جاءت لتنتزع الشعب اليمني من قيود الاستبداد والطغيان. بفضل هؤلاء الرجال الأوفياء، ظلت مأرب قلعة شامخة في وجه الأعداء، وراية الجمهورية ترفرف عاليةً فوق سماء الوطن، مؤكدين أن الشعب اليمني قادر على حماية تاريخه ومستقبله بإرادته الصلبة ووحدته الوطنية.
بهذا الموقف التاريخي، أثبت المؤتمر الشعبي العام أن إرادة الشعب اليمني هي الأقوى، وأن الدفاع عن شرعية الدولة ومكتسبات الثورة واجب وطني لا يُساوم عليه.

خاتمة: الثورة مستمرة
إن الاحتفال بذكرى ثورة 26 من سبتمبر ليس مجرد استذكار لماضٍ مجيد، بل هو تجديد للعهد بأن الثورة مستمرة، وأن مبادئها ستظل حيّة في وجدان كل يمني. ما زالت المعركة مستمرة، وما زال اليمن يواجه تحديات كبيرة تتعلق بالحفاظ على هويته الجمهورية ومستقبله الديمقراطي. وفي هذا السياق، تبقى مأرب رمزًا حيًا للصمود والإرادة الوطنية.

"كل عام وشعبنا الأبي ووطننا العزيز ينعمون بالخير والنصر، ويستشرفون مستقبلًا مشرقًا مليئًا بالتمكين والتقدم. لتظل قلوبنا مفعمة بالأمل وعزائمنا مشدودة نحو تحقيق الأهداف السامية، ولتبقى راية اليمن خفاقة في سماء المجد."