مطارح مأرب.. ترجمة للمنظومة القيمية
مسعد عكيزان
قبل أحد عشر عامًا وعلى مدار أشهر تطلع اليمنيون باستبشار إلى مخرجات الحوار الوطني على أمل أن تشهد البلاد مرحلة جديدة في تاريخها السياسي، يكون الأمن والأمان والاستقرار عنوانها بتجاوز العقبات والإرهاصات المتوالية منذ قيام ثورة الشباب، غير أن مليشيا الحوثي قلبت الطاولة على الجميع بانقلابها على تلك المخرجات، ودخولها إلى العاصمة صنعاء والسيطرة على مؤسسات الدولة ومقدراتها، مما سبب حالة شعبية من الإحباط توالى بفعلها سقوط عدد من المدن اليمنية فريسة سهلة في أيدي المليشيات.
وفي ظل هذه الظروف عكست مأرب الجانب المشرق من ثقافتها وفلسفتها الاجتماعية التي غمرتها رمال السياسة لعقود، مثلما غمرت رمال الصحراء تاريخ قرون من الحضارات التي قامت على ترابها.
انتصرت مأرب لنفسها وللجمهورية والحرية والكرامة حين هب أحرارها في شهر سبتمبر وعبروا عن موقف صلب سيظل أثره علامة فارقة في تاريخ اليمن يتناقله الأجيال، وذلك باحتشادهم في المطارح للتصدي لهذا المشروع الذي كشر عن أنيابه ليعيد اليمن إلى سالف عهده المظلم قبل قيام الثورة اليمنية المجيدة ضد الحكم الإمامي في شهر سبتمبر عام ١٩٦٢م والقضاء على الحكم الإمامي.
لقد مثلت هذه المطارح حاضنة شعبية لكل الأحرار اليمنيين من مختلف المحافظات الذين رأوا فيها الملاذ والحصن الحصين لمواجهة المليشيا الحوثية، وإعادة ترتيب الصفوف والاحتشاد في مطارحها، فكانت نواة للمقاومة الشعبية التي كانت نواة وبذرة لتشكيل ألوية الجيش الوطني والذي وقفت معه جنبًا إلى جنب في هذه الحرب التي فرضتها المليشيات على البلاد بخروجها عن النهج الديمقراطي، ورغبتها في حكم البلاد بالقوة والتعسف.
وعند النظر إلى الخلفية الاجتماعية التي بنيت عليها هذه الظاهر الاجتماعية السياسية يلزمنا تسليط الضوء على الثقافة الاجتماعية السائدة في مأرب لفهم المنطلقات التي حدت بأحرارها إلى إظهار موقف صلب أمام المشروع السلالي، ومثلت مطارحهم شوكة في حلوقهم حين حملوا على عواتقهم مقاومة ومناهضة هذا المشروع منذ إعلانه انقلابه على الجمهورية ورغبته في إعادة الحكم الملكي من جديد.
من الناحية الجغرافية، ساعد موقع مأرب في احتفاظها بأصالتها الثقافية، ومحدودية تأثرها بالمدنية، وبقيت عاداتها وتقاليدها متوارثة بين الأجيال، ولم تتأثر كثيرا بالقيم المادية التي تفرضها حياة المدن على سكانها، وبقيت لعقود طويلة محتفظة بالحياة الريفية البسيطة الخالية من التعقيد، يعتمد فيها السكان على الزراعة والرعي في حياتهم، ولم تشهد النشاطات الأخرى حركة إلا في فترات متأخرة بعد قيام الثورة اليمنية، وربما نربط ذلك ببناء سد مأرب وبداية عمليات التنقيب عن النفط فيها وقيام الشركات النفطية، وبناء مركز المحافظة لتصبح لاحقا المديرية الجديدة المضافة إلى مديرياتها السابقة.
ومن الناحية السكانية فهي مكونة من تركيبة قبلية تحكمها منظومة أعراف قبلية غير مكتوبة متوارثة منذ القدم، وهذه المنظومة تحظى باحترام الجميع ولها أثرها الكبير في المحافظة على استمرار الحياة وتقويم ما خرج عن مساره المألوف حيث يحتكم الجميع إليها ويقبلون بأحكامها المسنونة من قبل المشائخ والوجهاء مستندين في ذلك إلى خلفية مستمدة من مفردات تلك الأعراف، وعلى السنن المماثلة للوقائع والأحداث وما نفذ فيها من أحكام، ويستنبطون منها أحكامهم مع الأخذ بعين الاعتبار التوفيق بينها وبين مستجدات وحيثيات القضايا التي ينظرون فيها، ولا يفوتنا هنا الإشارة إلى أن الأعراف القبلية هي مجموعة قواعد وقوانين مستنبطة من أحكام الشريعة الإسلامية ولا تتنافى معها إلا في بعض تفاصيلها المتعلقة بالأحكام الرادعة والتشدد فيها حد الغلو أحيانا حرصًا على عدم اقترافها خشية الإلزام بتلك الأحكام الجائرة كأحكام العيوب ومنها على سبيل المثال (العيب الأسود).
هذه العوامل في مجموعها ساعدت على الاحتفاظ بالعادات والتقاليد التي تعود أصولها في بعض مفرداتها إلى عصور قديمة، فنجد قيم العربي الأصيل ماثلة حاضرة كإغاثة الملهوف ونصرة المظلوم وإكرام الضيف، ورفض الضيم والتكاتف والتلاحم عند النوائب، ورأي الجميع أن هذه من السنن الواجبة في الحياة وهي ما يجب أن يسود في حياتهم، وهذا ما ظهر جليا للجميع حين دق ناقوس الخطر وأدرك الأحرار أن هناك ما يهدد منظومة حياتهم التي نشأوا وتربوا عليها ورضعوها مع حليب أمهاتهم تنادوا وهبوا واجتمعوا في المطارح معبرين عن ترجمة واقعية سلوكية لمنظومتهم القيمية المقدسة، وحدث ذلك قبل أن يهب التحالف العربي لنصرة اليمن ضد المشروع الإيراني الذي أرادت تنفيذها عبر المليشيا الحوثية، فكانت المقاومة الشعبية المكونة من القبائل هي الوجهة التي يمم التحالف وجهه تجاهها ويضع يده في يدها لخوض هذه الحرب التي لازال أوارها حتى اليوم، ورغم ذلك فلم يتزحزح الأحرار عن موقفهم النابع من قناعات راسخة رسوخ الجبال حتى ينتصروا لليمن وللجمهورية والحرية والكرامة.