|    English   |    [email protected]

إيران والصراع الداخلي

الاثنين 30 سبتمبر 2024 |منذ شهر
مهيب نصر

مهيب نصر

إن الصراع المحتدم في إيران هو صراعٌ بين الثورة والدولة. تسعى إسرائيل ومن ورائها إلى تفريغ إيران من الثورة، لتخلق فيها نظامًا يشبه النظام العربي إلى حدٍ ما، كما ترغب في تغيير العداء الاستراتيجي بينهما إلى علاقة استراتيجية، فما يجمعهما أكثر مما يفرقهما، فاللغة المختلفة عند البلدين؛ المختلفة عن المنطقة عامل توافق، كذلك الديانة/الطائفية المختلفة عن الديانة المتحصلة في المنطقة، وكذا الغايات التوسعية لكلا الطرفين.

 هذه العوامل وغيرها تهدف إلى تلاحمهما استراتيجيًا لا تفرقهما سياسيًا، لأن المائدة العربية شهية لكليهما، ومن مصلحتهما الجلوس عليها لتقاسمها وتقاسم المصالح فيها. المُلاحظ أن ضحايا كلتا الدولتين هم  العرب-حسن نصر الله نموذجًا-وأن المستهدف سياسيًا واستراتيجيًا هي المنطقة العربية ومكتسبات الأمة.

لم تكن اغتيالات إسرائيل لقادة إيران لأنهم إيرانيون، أو لأنهم قادة إيرانيون، بل لأنهم ينتمون إلى الثورة أكثر من انتمائهم إلى الدولة، ولم يكن اغتيال رئيسي ووزير خارجيته كقادة إيرانيين، بل كقادة ثوريين، ولم يكن اغتيال حسن نصر الله وبقية القادة الذين يتساقطون في الضاحية الجنوبية لأنهم قادة حزب الله، بل لأنهم قادة في الثورة وللثورة المتصلة بإيران، فأوجبت على إسرائيل مصالحها الاستراتيجية اغتيالهم، لتغتال الثورة، بقصد خلق الدولة/النظام الذي تتغياه على الوصف السابق. 

من المعروف أن علي خامنائي هو رأس الثورة، وإلى حدٍ بعيد رأس الدولة، فضلًا عن منصب الولي الفقيه-المنصب الديني-بيد أن الرجل في أواخر عمره، كما هي الثورة تقريبًا، ولعل بموته اغتيالاً أو وفاةً طبيعية تكون مداميك الدولة/النظام الذي تتقصّده إسرائيل في إيران جاهزًا، وقدرته على احتواء فلول الثورة في طور الممكن لا في طور المستحيل.

 هذا يدعونا إلى فهم الطبقة السياسية الإصلاحية في إيران، بأبعادها الرغائبية المسالمة مع الغرب/أميركا، والمتوافقة مع أغلبية شعبية في تزهير الحياة وتغريبها، بل التعاون العميق بين هذه الطبقة وإسرائيل، وإن لم تكن في نظامٍ نسقي، ولكنها تتمظهر في أفرادها، وبعض قادتها، ما يفصح عن تخادم إسرائيل وهؤلاء في تحقيق غايتهما معًا، وذلك من خلال الاغتيالات، والاستخبارات، وغير ذلك، حتى نهاية السعي المقصود.

 إن قوة أميركا ليست في عسكرتها للمنطقة وللعالَم فحسب، بل في الصورة النفسية والحسية التي تنعكس بضلالها على الآخر، وأن صورة الحياة الأميركية الغربية -لا حقيقة الصورة في ذاتها وعقابيلها-هي من تدفع الأنظمة الضعيفة والقوية والشعوب إلى اتباعها، بل اللهث في تحقيقها. لطالما راهنت أميركا على هذا الخط الذهني مع الصين، وتغيير نظامها من تلقائه، بفضل العولمة وتلك الصورة المجهرية المشار إليها آنفًا، بعد أن كانتا الصين وأميركا دولةً واحدةً برئيسين-بتعبير الصحفي الأميركي فريدمان. بيد أن الصين لم تلتحق بالمعسكر الأميركي أو الاقتصادي، وحافظت على صورتها الذهنية عن نفسها، من خلال المحافظة على هويتها السياسية والثقافية والاقتصادية، وانتهاج السبل التنافسية التي بها ومن خلالها أصبحت هي وأميركا في قمة الهرم العالمي. من المحتمل أن ما حدث ويحدث مع إيران هو عكس ما حدث مع الصين، نظرًا لعوامل عدة، أهمها ثلاثة عوامل: 
الطبيعة الجغرافية.
الطبيعة الاقتصادية.
الطبيعة السياسية. 

*الطبيعة الجغرافية: 
من طبيعة الجغرافيا أنها ناطقة أكثر منها صامتة، إنها تحدثنا عن الجوار الذي تتأثر به، سواء كان تأثيرًا ثقافيًا، أو سياسيًا، أو اقتصاديًا، وفي الجوار الجغرافي الإيراني أنظمةٌ تابعة للحامي الأميركي، هذه الأنظمة تتوسَّل الخيارات التي ترغب إليها واشنطن لتصنعها، كما تصنع من عندياتها ما يتواءم والمحافظة على النوم العام للشعوب، ومن تقليدٍ لدول العالم الغربي وفي مقدمتها أميركا، في محاولة ترسيب مطلقة، واسترضاء للنظام العالمي، بل ليقينها في أحايين كثيرة بحقيقة الصورة التي صدَّرتها أميركا عن نفسها وعن العالَم الغربي.

 يتداخل أولئك الإيرانيون-الإصلاحيون- ما يتداخل الأنظمة العربية، مع فارقٍ واحدٍ  وهو التفوق على الأنظمة في مجالاتٍ شتى، فإيران تستند إلى إرثها الكسروي، كما تنظر إلى العربي ذات النظرة التي ينظر بها الإسرائيلي/الأميركي، ولعل أحسن من عبر عن ذلك الإزدراء والاحتقار الشاعر الإيراني مصطفى بادكوبه في قصيدة بعنوان "إله العرب" يقول فيها:
"خذني إلى أسفل السافلين أيها الإله العربي.
شريطة أن لا أجد عربيًا هناك!"

*الطبيعة الاقتصادية.
 يمكننا القول أن الاقتصاد الإيراني يعتمد بشكلٍ كبير على النفط، بيد أن العقوبات الأميركية المتلاحقة على هذا القطاع أفقدته الكثير من حيويته، ووضعته تحت رحمة القرار السياسي الأميركي، بالإضافة إلى العقوبات الأخرى على قطاعاتٍ مختلفة، ما ترتب على ذلك انهيار العملة بسبب التضخم، والعجز الكبير والمستمر في الموزانة، ما أنعكس بطبيعة الحال على حياة الشعب الإيراني، وقدرته الشرائية.  

*الطبيعة السياسية.
سبق وتحدثنا عن عوامل السياسة، والصراع بين قطبيها: الثورة والدولة. غير أن ما يمكن أن يضاف هو الخلاف الإيراني الإسرائيلي على البرنامج النووي. لنفهم هذا البعد علينا أن نعرف ابتداءً هل في البنية الثقافية للدولة/النظام الذي تسعى  إسرائيل إلى إيجاده التخلي عن هذا المسعى؟
إذا استطعنا الإجابة على هذا السؤال، نستطيع أن نفهم تحقق هذه العلاقة التي تريدها إسرائيل من عدمها. من خلال القرائن الآنية يمكننا القول إن ثمة إمكانية للتنازل عن البرنامج النووي، بناءً على تنازلات هذا الخط الإصلاحي عن الثورة، وعن التوافقات في سبيل تبضيع المنطقة، أما إسرائيل فلن تسمح لإيران بالحصول على السلاح النووي، فإسرائيل لا تبتغي دولة/نظام في إيران ليكون قويًا، وإنما ليكون مساعدًا لها في تحقيق قوتها وسيطرتها على المنطقة، بالإضافة إلى خشيتها لتغيُّر النظام، وبالتالي تغيُّر برامجه وأهدافه، إذ الشيء الثابت في السياسة هو المتغير. 

ماذا عن الصراع بين الثورة والدولة؟
المرجح حاليًا هو انتصار الدولة/النظام على الثورة، نظرًا لوجود رئيس إصلاحي على سدة الحكم، وعوامل التراخي المُفرِطة في التعامل مع إسرائيل، منذ اغتيال  إسماعيل هنية على الأراضي الإيرانية، إلى اغتيال حسن نصر الله في الضاحية الجنوبية. ما ليس معروفًا هي المناجزة الأخيرة، وأي القطبين سينتصر، وفي اعتقادي أن ثمة مدى منتظر لنرى بعد ذلك إلى أي من القطبين ستتجه إيران.

المحصلة الاستراتيجية فيما لو تخلّت إيران عن النزعة الثورية، بالمقارنة إلى تمسكها بها. أرى أن المحصلة  أيسر عليها وأفضل لها، لأنها تتقاطع مع المخطط الأميركي والإسرائيلي، وفي صالحهما معًا نهج هذا الخط الجديد، دون أن تخسر إيران ما تربحه الآن في المنطقة العربية، ودون أن تخسر إسرائيل ما تخسره الآن في مواجهة بعض الأقليات في المنطقة المدعومة من إيران.