أعد التقرير لـ“برّان برس” ـ فارس السريحي:
تحت خيام مهترئة، ترزح قرابة 300 ألف أسرة يمنية تحت زمهرير الشتاء في مخيمات النزوح بمحافظة مأرب (شمالي شرق اليمن).
كل أسرة منها تواجه موجات الصقيع القاسية منفردة مجرّدة من كل وسائل الحماية ومستلزمات الوقاية، إلا من خيام متهالكة أو أسمال بالية.
أكثر من 200 مخيم وتجمّع نزوح رسمي بمأرب، أغار عليها الشتاء دفعة واحدة. اجتاحها بقسوة ودون مقاومة. غيّر ملامحها ونمط العيش فيها. نشب أظفاره في وجوه الصغار وصدورهم، شقق أكف الآباء، وأسال دمع الأمهات.
إلى جانب تداعيات البرد، تصارع الأسر الجوع وغلاء الأسعار وانعدام الأعمال والأمل بانتهاء الحرب والعودة إلى ديارها وأملاكها.
السويداء.. تضاريس قاسية ومعاناة ممتدة
“بران برس” زار “مخيم السويداء”، شرق مديرية صرواح، على بعد 8 كم غرب مدينة مأرب. ويمتد شمالًا على يمين الخط الدولي (مأرب- صنعاء) بنحو 1 كم2، ويحيط به من الغرب سلسلة جبلية بركانية بارتفاع أقصى يتجاوز 500 متر.
يعد “السويداء” ثاني أكبر مخيم نزوح في مأرب بعد مخيم الجفينة، حيث يحتضن 2000 إلى 2500 أسرة نازحة. ووفق مسح أجرته مجموعة إدارة وتنسيق المخيمات في أكتوبر/تشرين الثاني 2022، فقد كان يحتضن حينها 1645 أسرة نازحة، تضم 8772 فردًا.
تنحدر أغلب هذه الأسر، وفق المجموعة، من مديرية نهم (شرق صنعاء)، ومناطق مدغل والجدعان شمالي غرب مأرب. فيما البقيّة من محافظات الجوف وعمران وغيرها.
يضم المخيم أسر يعيلها أطفال، والعديد من ذوي الاحتياجات الخاصة، والمسنين، وعشرات الحوامل والمرضعات. وطبقًا للمسح، فإن الغذاء والمياه والمساعدات النقدية من الاحتياجات ذات الأولوية بالنسبة للنازحين في المخيم.
بخلاف المخيمات الأخرى بمأرب ذات الطبيعة الصحراوية، يقع “السويداء” على أرض بركانية قاسية، وفي منطقة مفتوحة خالية من العمران والحياة والخدمات، وهو ما يجعل البرد أشد قسوة على النازحين.
معاناة شديدة
في الأطراف الشمالية الغربية للمخيم، التقى “بران برس”، النازح “صالح الجهمي” (48 عامًا)، والذي ينحدر من قبيلة جهم التي تسكن غرب محافظة مأرب، وكان قد نزح وعائلته في العام 2015، إثر هجوم الحوثيين على المنطقة.
قال “الجهمي”، إن النازحين في المخيم يعيشون “معاناة شديدة” مع حلول فصل الشتاء، خصوصًا الأطفال وكبار السن. مضيفًا في حديث مصوّر: “لا يوجد لدى النازحين ما يقيهم البرد القارس هذه الأيام... لا فرش ولا بطانيات ولا جواكت.
بالنسبة للمواد الغذائية الأساسية قال: لا يوجد شيء إلا ما يشترونه من السوق والأسعار مرتفعة. ومن أجل مواجهة البرد نحتاج بطانيات وفرش وخيام وطرابيل وأكوات وبجايم خصوصًا لكبار السن والأطفال”.
عن المساكن في المخيم، قال إنها “عبارة عن معارش وخيام وشبكيات لا تقي النازحين شدّة البرد”. مضيفًا أنه لا يوجد كنتيرات ولا يسمح للنازحين ببناء مساكن من البلك لحماية أطفالهم.
الكثير من الأطفال الذين وجدناهم بالمخيم لا يرتدون ملابس ثقيلة خاصة بالبرد. نادرًا ما وجدنا طفل يرتدي قفازات وأغطية رأس، والأمر كذلك بالنسبة للرجال والمسنين. وأجاب كثير منهم بأنهم لا يمتلكون ملابس ثقيلة.
مخاطر صحية
النازح عبدالرحمن القدر، قال لـ“بران برس”، إن نحو 2500 أسرة نازحة في “السويداء” تعيش معاناة قاسية هذا الموسم بسبب البرد الشديد. مضيفًا أن الحميات والزكام والالتهابات انتشرت بشكل كبير جدًا لدرجة أن المستشفى الميداني لم يعد يستوعب هذه الحالات لكثرتها.
عن الأسباب، أوضح أن “النازح يسكن في خيمة، ولا يجد مأوى يحمي أسرته من البرد، والمواد الإيوائية غير متوفرة كالفراش والبطانيات وأدوات الوقاية من البرد كالملابس الصوف والأدوية. مضيفًا أنه كلما زاد البرد زادت حالات الإصابة بأمراض الشتاء.
من جانبه، قال مسؤول الترصد الوبائي في المستشفى الميداني السويداء، الدكتور مانع الجبري، أن المستشفى يستقبل حوالي 200- 220 حالة يوميًا.
وأضاف أن المستشفى يقدم الخدمات للنازحين مجانًا 100%، لكن لا يوجد دعم لنغطي احتياجات الناس، وخاصة الأدوية والمحاليل للمختبر.
بجّاش.. إعاقة ونزوح ومعاناة
النازح “أحمد حمود مقبل بجاش” (85 عامًا)، من أبناء محافظة عمران، استوقفنا ونحن نغادر المخيم شاكيًا المعاناة التي يكابدها دون مساندة من الحكومة اليمنية المعترف بها أو المنظمات الأممية والوكالات الدولية.
يعد “السويداء” ثالث محطّة نزوح لبجّاش، فقد نزح في المرة الأولى من منطقته إلى محافظة الجوف (شمالي البلاد)، ومن ثم إلى منطقة الروضة غربي مأرب، قبل أن يغادرها إثر الهجوم الحوثي الواسع على المنطقة.
يعاني بجّاش، من إعاقة جزئية في قديمة وعينه اليسرى، إثر حادث مروري قال إنه تعرّض له بمنطقته في العام 2013، وهو ما حال دون التحاقه بوظيفة حكومية يتقاضى من خلالها راتبًا يساعده في إعالة أسرته المكوّنة من 8 أفراد.
تحدث لـ“بران برس”، عن صعوبة الوضع الذي يعيشه كونه غير موظف في الدولة ولا يستلم “معاش” شهري. وإضافة إلى ذلك قال إنه لم يتلق أي مساعدة منذ نزوحه إلى مأرب قبل 6 سنوات ونصف.
وقال: أول ما نزحت أعطوني فراش قبل 5 سنوات والآن تمزّق. معي صندقة (خيمة)، ونحن 8 أفراد داخلها، نعاني بشدّة من البرد. لا فراش ولا مأوى.
الخيام.. خيار إجباري
معظم مخيمات النزوح بمأرب أقيمت على أراض تعود ملكيّتها لقبائل مأربية، ومنها “مخيم السويداء”. واشترطت عدم البناء عليها خوفًا من تملّكها وصعوبة استرجاعها في المستقبل.
أثناء تنقلنا بـ“مخيم السويداء”، وجدنا النازح “عبدالرحمن النجار”، إلى جوار مسكنه مع أطفاله الصغار ينقبون عن ذرات التراب وسط الأحجار البركانية السوداء كي يتمكّن من بناء غرفة يتحصنون فيها من البرد.
قال “عبدالرحمن”، لـ“بران برس”، إن لديه أربعة أطفال، ومؤخرًا رزق بمولود جديد، ولا يوجد لديه شيء لمواجهة البرد. مضيفًا أن عائلته تسكن في شبكية ويحاول بناء غرفة من اللبن لمواجهة شدة البرد.
قبلها، كان “عبدالرحمن”، مستأجر شقّة بمجمع الخير في مدينة مأرب منذ 6 سنوات، وتحت ضغط الزيادة السنوية في الإيجار التي كان يفرضها عليه المؤجّر اضطر للنزوح إلى هنا رغم المشقّة والمعاناة القاسية.
وكان مدير عام الوحدة التنفيذية بمأرب، “سيف مثنى”، قد تحدث في مقابلة سابق مع “بران برس”، عن انتقال الكثير من الأسر النازحة التي كانت قد سكنت المدن والأرياف إلى المخيمات.
وقال إن المخيم أصبح “الملاذ الأخير” الذي يتوجه إليه النازحون ممن كانوا قد سكنوا المدن والأرياف بعدما أنفقوا كل ما لديهم من أموال وممتلكات، وعجزوا عن دفع تكاليف السكن.
معاناة متعددة
المعلم غالب عياش، قال إن “أسباب نزوح الناس معروفة، لكن غير المعروف هو عدم تدخل المنظمات والجهات المعنية لتلبية احتياجات النازحين في هذا المخيم سواء احتياجات الشتاء أو غيرها.
وأضاف لـ“بران برس”، أن المخيم يعاني من كل النواحي. مرينا على أسر في بعض المساكن، نشهد لله أنهم لم يستطيعوا النوم من شدّة البرد”.
وأكّد ما سبق وقاله النازح “القدر”، بأن “المستشفى لم يتسع لكثرة المرضى الذين بداخله”. مضيفًا أن “المستشفى والأطباء موجودون لكن العلاج غير موجود”.
وطالب الجهات المعنية بالتدخل العاجل في مجال المأوى والصحة وفي كل النواحي”. وأضاف متسائلًا: إذا لم يتدخلوا في هذا الوقت متى سيتدخلون؟.
لا تدخلات
وفق “سيف مثنى”، فإن محافظة مأرب، تحتضن 2 مليون ومائتين ألف نازح من 14 محافظة يمنية، منهم أكثر من 292 ألف أسرة تسكن في 208 مخيم نزوح معتمد، فيما 86% يسكنون تجمعات سكنية بالمدن والقرى.
وأضاف أن تدخل المنظمات منخفض جداً بمأرب، خصوصاً في جانب المأوى والإيواء ولوازم التدفئة والغذاء، رغم أن نسبة النازحين 62% على مستوى اليمن، و76% من إجمالي النازحين بمناطق الحكومة المعترف بها.
وأكّد أن “هناك الكثير من الأسر لا تزال تسكن في مساكن لا تقي من البرد”. وقال: “لا يزال لدينا أكثر من 80 ألف أسرة نازحة لا يوجد لديها أي تدخلات في جانب الأمن الغذائي”.