
برّان برس - وحدة التقارير:
“أكرمني الله بقتال إسرائيل على أرض فلسطين والصلاة في القدس”.. عبارة أثيرة لدى المعمّر اليمني “حسين بن ناصر الجهمي”، يقولها بفخر وسعادة لكل من يسأله عن حاله، وعما شهده في حياته التي تتجاوز 100 عام.
على المستوى الوطني، يفاخر بتمرّده على الظلم والضيم، ومشاركته في الثورة اليمنية 26 سبتمبر/أيلول 1962، التي أطاحت بحكم الإمامة المستبد، وأسست النظام الجمهوري القائم على مبادئ الحرية والمواطنة المتساوية.
يستكشف “بران برس”، في هذه المادّة، محطات مهمة من مسيرة واحد من أقدم المحاربين اليمنيين الذين استبسلوا في الدفاع عن قضايا الأمّة العربية، وساهموا بفعالية في تحرير اليمن من أسوأ حكم استبدادي عرفته المنطقة.
خيمة المحارب
كان المحارب والثائر اليمني المعمّر “حسين الجهمي”، قد غادر منزله مع أبنائه وأحفاده والعديد من العائلات إثر هجوم جماعة الحوثي المصنفة عالميًا بقوائم الإرهاب على منطقتهم آل جهم بمديرية صرواح غربي محافظة مارب، ليستقر به الحال في خيمة متواضعة بمخيم السويداء للنازحين، ثاني أكبر مخيم نزوح بالمحافظة.
في صباح أحد أيام الشتاء الفائت، فاجأناه بزيارة ميدانية إلى مسكنه في المخيم، وما إن وصلنا حتى خرج لاستقبالنا بحفاوة، مستندًا على عصاه، ومرددًا عبارات الترحيب القبلية الأصيلة.
رغم أثقال قرن من الزمن، إلا أنه لا يزال يقف بثبات، ويواجه صعوبات النزوح وشظف العيش بصبر ويقين. بشرته السمراء، تجاعيد وجهه العميقة، لحيته البيضاء الطويلة والكثيفة، عيناه اللامعتان من خلف نظارته الطبية، ابتسامته الآسرة، ملامح متوهجة تضفي عليه مهابة وعراقة ووقار، وتحكي تاريخًا طويلًا من النضال والتضحية.
بينما كان يقودنا إلى خيمته، التي لا تتجاوز مساحتها 4 م2، كان نفر من أحفاده الصغار يركضون نحوها أمامنا وحولنا. تقف الخيمة على أعواد متداخلة من الخشب والحطب. أرضيتها من الحصى الأسود الخشن، وعلى جانبيها، فرشان وبطانيتان، ويغطي سقفها قطع قماشية ممزقة ومتناثرة تعكس بساطة حياته وتواضعها.
بلهجة بدوية أصيلة ونبرة مفعمة بالثقة والاعتزاز، روى لنا في حديث مصوّر من مجلسه بأحد جوانب الخيمة، مواقف بارزة من سيرته، ومحطات تاريخية مهمّة شهدها وعاش تفاصيلها على المستويين اليمني والعربي.
بطل الحرب العربية الإسرائيلية
في حديثه عن فلسطين، استرجع بحماس ذكريات شبابه اليافع، حينما لبّى نداء العروبة والإسلام، مشاركًا بأولى الحروب العربية لتحرير الأرض المقدّسة أو ما عرف بـ“حرب 48”، والتي ألحقت بإسرائيل أكبر الهزائم والخسائر.
تحدث لـ“بران برس”، عن موقف الدول العربية من الاحتلال، وتفاعلها مع قرار الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين، حيث شنّت هجومًا عسكريًا في مايو/أيار 1948، لدحر ميليشيا الصهاينة من المستوطنات، واستمرّت المعارك حتى مارس/آذار 1949.
إلى جانب الجيوش النظامية الأردنية والمصرية والعراقية والسورية واللبنانية والسعودية، تدفق آلاف المتطوعين العرب إلى ساحات القتال، وكان الفتى “الجهمي”، واحد منهم.
فبينما كان يؤدي مناسك الحج في مكّة المكرّمة، سمع نداء الجهاد والعروبة، لينطلق ضمن أفواج المتطوّعين اليمنيين والعرب الذين بلغ عددهم نحو ثلاثة آلاف متطوع تم تنظيمهم في 7 أفواج عرفت لاحقًا بـ“جيش الانقاذ”.
كانت الأردن محطته الأولى، والتي كانت تشهد- حينذاك- أعنف المعارك وأهمّها مع قوات الاحتلال الإسرائيلي، ومنها عبرت القوات الأردنية وأفواج المتطوّعين نهر الأردن إلى فلسطين في 16 مايو/أيار 1948.
عن تلك الفترة، قال لـ“بران برس”، إن ملك الأردن الحسين بن طلال، استنجد بالسعودية والدول العربية بعدما حاصرت إسرائيل قواته داخل عمّان. مضيفًا أن القيادة السعودية استجابت للنداء، ودعت المسلمين للمواجهة.
واستجابة للنداء، تدافعت أفواج المتطوعين إلى ساحات القتال، وتمكّنت من تطويق القوات الإسرائيلية المتوغلة في منطقة الزرقاء الأردنية، وأجبرتها على الانسحاب. ووفقًا للجهمي، فأن الملك الحسين، وجّه حينذاك الجيوش والمتطوعين بعدم إطلاق النار على القوات المنسحبة.
أشاد “الجهمي”، بموقف الملك السعودي، آنذاك، فيصل بن عبدالعزيز، ووصفه بأنه كان رجل قوي وقائد حكيم. وذكر أنه أثنى على القوات المشاركة في الدفاع عن الأردن، وطلب منهم التوجه إلى فلسطين لتحريرها.
وأضاف: وافقنا على الذهاب إلى فلسطين، ودخلنا نابلس وغزة وأريحا وكل مكان فيها. مستعرضًا المدن والمناطق الفلسطينية التي جرى تحريرها وطافها مقاتلًا حاملًا سلاحه وعتاده من الضفّة الغربية شرقًا إلى غزّة ويافا غربًا.
وفق المصادر التاريخية، فقد بلغ تعداد القوات الأردنية المشاركة في المعركة أربعة ألوية وعدّة كتائب مشاة، بينما عدد القوات السعودية 3200 رجل، وصلت إلى غزّة تباعًا على ثلاث دفعات بين 27 مايو- 15 يونيو 1948.
خلال 10 أشهر من المعارك، حرّرت الجيوش العربية وأفواج المتطوّعين مناطق واسعة من أرض فلسطين أهمها القدس والضفة الغربية قبل أن يتدخل مجلس الأمن لفرض وقف إطلاق النار في 10 يونيو/تموز 1948.
وفقًا لـ“الجهمي”، فإن الملك حسين، الذي كان قد مضى إلى فلسطين على رأسه قواته مع أفواج المتطوّعين، أمر بوقف إطلاق النار على الإسرائيليين امتثالًا لقرار وقف إطلاق النار.
كان القرار مفاجئًا للجيوش العربية وللمتطوعين الذين باتوا على مشارف “تل أبيب”، بينما مثّل فرصة لإسرائيل لإعادة تنظيم قواتها والتزود بأسلحة نوعية واستئناف المعارك واستعادة مناطق واسعة، لتنتهي الحرب بقبول العرب هدنة ثانية مثّلت قبولًا بالهزيمة.
مع توقف المعارك، قرر “الجهمي”، وثلاثة من رفاقه زيارة المسجد الأقصى، معبّرًا عن سعادة الغامرة بهذه اللحظة. فبعد أدائه فريضة الحج في البيت الحرام، تمكّن من أداء الصلاة في أولى القبلتين وثالث الحرمين.
ميدانيًا، دخلت الحرب مرحلة الجمود رغم محاولات أفراد الجيوش العربية والمتطوعين استئناف معارك التحرير.
وعلى هذا الحال، قال “الجهمي”، في حديثه لـ“بران برس”: مكثنا سنة في الأراضي الفلسطينية. طلبنا منهم (القادة العرب) السماح لنا بتحرير تل أبيب، وإنهاء الوجود الإسرائيلي فيها، إلا أنهم منعونا من ذلك.
وعن تفسيره لموقف القادة قال: “كانوا خائفين على حياتهم وهم مسؤولين”. وبرأيه فإنه “لو تُرك الأمر للقادة الشباب الذين كانوا موجودين معنا لتمكّنا من تحرير كل فلسطين”.
بعد الهدنة الطويلة، قرر البطل “الجهمي”، العودة إلى بلاده اليمن، بعد أن زار القدس، ورأى بأمّ عينية جبن الإحتلال وشجاعة الأبطال وغدر السياسة. حاملًا معه حسرة ضياع أهم فرصة تاريخية لاستعادة فلسطين كاملة.
بطل الجمهورية
بعد وصوله إلى مسقط رأسه، أقام عرسه على شرف المعركة والصلاة في القدس، إلا أن الإمامة لم تترك له فرصة للراحة، فقد وسّعت حربها الضروس ضد القبائل، في محاولة لإخضاعهم وإلزامهم بالجبايات والرهائن، ليقرر الانضمام إلى صفوف القبائل في حروبهم الدفاعية، بما فيها مقاومة الحرب الإمامية ضد قبائل حريب.
إلى جانب الحروب المباشرة، روى “الجهمي”، لـ“بران برس”، جانبًا من معاناة اليمنيين المريرة تحت حكم الإمامة الاستبدادي، متحدثًا عن الجبايات الدورية، وقهر السجون، وابتزاز القبائل بنظام الرهائن، وبالأخص قبائل مارب.
تحدث عن تمرّد قبائل مارب ضد الإمامة ورفضهم نظام الرهائن. مستشهدًا بمواقف وأبيات شعرية توثق هذا الموقف القوي. معرجًا على حروب قبائل اليمن وأحرارها ضد الإمام يحيى، ومن ثم ضد نجله الطاغية أحمد.
وحينما اشتغلت شرارة ثورة 26 سبتمبر/أيلول 1962، كان في طليعة الأحرار الذين ثاروا ضد الإمامة، وقاتلوها ببسالة في جبال اليمن ووديانها، انطلاقًا من إيمانهم العميق بحق الشعب في الحرية والمساواة والحياة الكريمة.
وتجسّد ذلك أيضًا في الحروب اللاحقة لحماية الجمهورية الوليدة من الهجمات الارتدادية لفلول الإمامة وبقايا العائلة المستبدّة المتشبّثة بالحكم والثروة.
في كل المراحل، كان “الجهمي”، واحدًا من الأبطال الذين صنعوا فجر اليمن الجديد، ورسّخوا مداميك الجمهورية على أنقاض حكم الإمامة المستبد والمتخلف.
مفارقة
يأتي لقائنا بهذا المحارب القديم، تزامنًا مع الحرب الوحشيّة التي يشنّها الاحتلال الإسرائيلي على غزّة، ومع الحروب التي تخوضها جماعة الحوثي للسنة العاشرة على التوالي ضد الشعب اليمني والنظام الجمهوري.
وفقًا للجهمي، فإن ما تمارسه الجماعة الحوثية بحق الشعب اليمني لا يختلف كثيرًا عما مارسته الإمامة قديمًا، بل إن ما يشهده حاليًا لم يرَ مثيلًا له في عمره الطويل، وبكل البلدان التي عرفها.
والأغرب أن هذه الجماعة التي تزعم اليوم نصرة غزّة وفلسطين التي قاتل عنها هذا الثائر البطل في شبابه، هي من هجّرته اليوم من أرضه ومنزله في شيخوخته، وجعلته يعيش المعاناة في آخر عمره.
مسيرة بطل قومي
رغم قساوة الواقع الذي يعيشه اليوم في عقده الثاني بعد المئة، إلا أنه يبدو مطمئنًا راضيًا بما حققه في حياته، معتزًا بموقف أبنائه المنحاز لقضيّة الشعب، وقيم الحرّية والكرامة في مواجهة الظلم والتسلّط باسم الدين والنسب المزعوم.
قصّة “الجهمي”، ليست مجرّد حكاية بطل يمني أمضى عمره في الدفاع عن وطنه وتجسيد مواقف وقيم شعبه تجاه القضايا الوطنية والقومية، بل تمثّل شهادة حيّة تحكي تاريخ أمّة، وتضحيات رجال قاتلوا ببسالة من أجل القيم والمبادئ التي آمنوا بها.
وبينما يثق بقدرة أبنائه وأحفاده وكل اليمنيين على حماية جمهوريتهم واستعادة ألقها، يأمل أن تعود فلسطين إلى سابق عهدها ليعيش أبناؤها حياتهم الطبيعية بحرّية وكرامة، بعيدًا عن الشعارات والمزايدات.