|    English   |    [email protected]

اليمن كساحة صراع مفتوح.. أزمة التفويض القانوني في ظل اختلال التوازنات

الأربعاء 7 مايو 2025 |منذ يومين
توفيق الحميدي

توفيق الحميدي

في مشهد متداخل تتصارع فيه السيادة الوطنية مع مصالح القوى الكبرى، يجد اليمن نفسه اليوم ساحة مكشوفة للضربات الخارجية والاختراقات الداخلية، في ظل استمرار انقلاب جماعة الحوثي وبقاء الحكومة الشرعية مكبلة الإرادة ومقصاة عن دوائر القرار الدولي. لقد أدى إعلان الحوثيين دخولهم في مواجهة مفتوحة مع إسرائيل، بذريعة نصرة غزة، إلى تدخلات عسكرية من أطراف دولية كالولايات المتحدة وإسرائيل، استهدفت مواقع في الحديدة وصنعاء ومحطات البنية التحتية، وهو ما يشكل تطورًا خطيرًا في مسار الحرب اليمنية، ويطرح إشكالات قانونية تتصل بحقوق الدولة اليمنية، وموقعها من هذه المواجهة، ودور الحكومة الشرعية في حماية سيادتها.

من حيث المبدأ، لا تملك جماعة الحوثي أي شرعية دستورية أو قانونية لتعلن الحرب أو تمثل اليمن في علاقاته الخارجية. فالدستور اليمني ينص بوضوح على أن رئيس الجمهورية والحكومة الشرعية هما من يحتكران قرارات السيادة، بما في ذلك إعلان الحرب أو السلم أو عقد التحالفات. وقد كرّس القرار 2216 لمجلس الأمن هذا المفهوم حين اعتبر جماعة الحوثي سلطة انقلابية وطالبها بالكف عن أي أعمال من صلاحيات الدولة. بناءً عليه، فإن أي تصرف عدائي نحو دولة أجنبية تقوم به جماعة الحوثي لا يُنسب قانونًا إلى الدولة اليمنية، بل هو فعل غير مشروع صادر عن جماعة متمردة. ومع ذلك، فإن الردود العسكرية الإسرائيلية والأمريكية تجاه تلك الأفعال استهدفت الأراضي اليمنية، وقُدّمت تحت عنوان الدفاع عن النفس، متجاوزة بذلك الموقف القانوني للحكومة اليمنية الشرعية، التي لم تكن طرفًا لا في الفعل ولا في الرد، بل كانت مغيبة بالكامل عن معادلة الحرب.

لم يصدر عن مجلس الأمن أي قرار يجيز استخدام القوة العسكرية في اليمن لمواجهة الحوثيين، باستثناء فرض حظر على تزويدهم بالأسلحة والسماح بعمليات تفتيش محدودة. فحتى القرار 2722 الذي أدان الهجمات الحوثية على الملاحة الدولية لم يمنح أي تفويض عسكري صريح، مما يجعل الضربات الجوية، سواء من إسرائيل أو من الولايات المتحدة وبريطانيا، خارج إطار الشرعية الدولية. وفي حين يمكن اعتبار بعض العمليات الأمريكية والبريطانية نابعة من تنسيق ضمني مع الحكومة اليمنية الشرعية، فإن غياب إعلان رسمي واضح يفتح الباب لطعن قانوني في مشروعيتها من قبل أطراف أخرى، خصوصًا إذا ترتبت عنها أضرار على المدنيين أو البنية التحتية الحيوية في مناطق النزاع.

في المقابل، تتحمل جماعة الحوثي المسؤولية القانونية الكاملة عن توريط اليمن في صراعات إقليمية خطيرة دون تفويض من الدولة أو توافق وطني. فهي، من جهة، أقدمت على إعلان الحرب ضد دول أجنبية، وهو ما يمثل خيانة دستورية وانتهاكًا صارخًا لسيادة الدولة، ومن جهة أخرى، استدرجت قصفًا خارجيًا ألحق أضرارًا جسيمة باليمنيين ومقدراتهم. لقد حولت الجماعة الأراضي اليمنية إلى منصة لخدمة أجندات خارجية، لا سيما الإيرانية، وفقًا لتصريحات رسمية من الحكومة اليمنية، مما دفع المجتمع الدولي إلى اتخاذ خطوات تصعيدية ضدها كتصنيفها جماعة إرهابية وفرض عقوبات أممية.

وفي ظل هذا الوضع، تمتلك الحكومة اليمنية الحق القانوني والسياسي في رفض أي عمل عسكري على أراضيها لم يُنفذ بتنسيق مباشر معها، والحق في تقديم الاحتجاجات والمطالبات بالتعويض، وتحميل الحوثيين المسؤولية الكاملة عن زعزعة الأمن الوطني والإقليمي. ومن المفارقات القانونية والسياسية أن الولايات المتحدة، التي تشارك في قصف الحوثيين عسكريًا، فتحت في الوقت ذاته مسارًا تفاوضيًا معهم عبر سلطنة عمان، دون إشراك الحكومة الشرعية أو حتى إعلامها رسميًا، وهو ما يمكن اعتباره تفويضًا غير مباشر للجماعة الانقلابية، وإضفاءً تدريجيًا للشرعية عليها بوصفها طرفًا سياسيًا يمكن التفاهم معه، بينما تظل الحكومة الشرعية خارج قاعات النقاش.

ويبرز تصريح الرئيس ترامب عن مفاوضات غير مباشرة مع جماعة الحوثي الإرهابية  لوقف استهداف السفن بالبحر الأحمر مقابل وقف القفص الأمريكي عبر مسار عمان ، تهديد خطير يهدد المساس بالشرعية، بل يتعدى ذلك إلى إعادة صياغة خريطة القوى داخل اليمن بما يتجاوز الإرادة الشعبية والدستورية، ويفتح الباب أمام تقنين الأمر الواقع وتفكيك مؤسسات الدولة. إذ إن قبول الأطراف الدولية بالتفاوض مع الحوثي خارج إطار الشرعية يعد خرقًا مباشرًا لمبدأ احترام السيادة، ويضعف الموقف القانوني للحكومة اليمنية أمام المجتمع الدولي. وإن لم تتخذ الحكومة خطوات عاجلة لإعادة ضبط مسار التفاوض الدولي ليكون تحت مظلتها، فإن شرعيتها ستُقزّم تدريجيًا، وتُفرض عليها تسويات لا تمثل إرادة الشعب اليمني.

يعد سلوك الولايات المتحدة الامريكية انتهاك لما حذرت منه   تقارير الأمم المتحدة مرارًا بشأن خطورة الاعتراف بالأطراف المسلحة غير الحكومية في ظروف النزاعات الداخلية، وذلك لما يترتب عليه من آثار قانونية تمس سيادة الدول. وقد تناولت لجنة القانون الدولي في مسودتها بشأن «حماية السيادة من التدخل غير المشروع» سنة 2001 أن أي اعتراف بحكم الأمر الواقع لسلطة متمردة يجب ألا يسبق حلاً سياسيًا شاملًا يتوافق مع القانون الدولي. كذلك، فإن المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان في قضية لويزيدو ضد تركيا سنة 1996 شددت على أن الاعتراف الضمني بكيانات انفصالية أو سلطات أمر واقع – حتى من خلال التفاوض – يُعد مساهمة فعلية في استمرار انتهاك السيادة، ما لم يتم ضمن إطار شرعي. وفي السياق اليمني، فإن منح جماعة الحوثي أي صفة تفاوضية خارج الإطار الحكومي يُدخل المجتمع الدولي في دائرة التواطؤ الصامت أو النشط في ترسيخ الانقلاب، لا سيما حين تقترن المفاوضات بالتجاهل المتعمد للحكومة المعترف بها دوليًا. وهنا تكمن الخطورة القانونية الحقيقية: إذ إن استمرار هذا النمط من التعامل يعيد إنتاج نماذج الصراعات المجمدة مثل الحالة القبرصية أو الجورجية، حيث تُستبدل الدولة الواحدة بسلطات مجزأة تتنازع التمثيل، وتصبح الشرعية مسألة تفاهمات ظرفية لا التزام قانوني راسخ. لذلك، فإن معالجة الوضع في اليمن قانونيًا تبدأ من رفض هذا النهج والتأكيد على أن أي عملية سياسية أو تفاهم دولي يجب أن تتم من خلال الممثل الشرعي للدولة، وبما يحفظ وحدة أراضيها وسيادتها الكاملة.
 
تجد الحكومة اليمنية نفسها إذًا بين مطرقة انتهاك السيادة من أطراف أجنبية، وسندان تمرد داخلي يجذب القصف، ويقايض بسيادة الدولة في مسارات تفاوضية لا تعرف عنها الحكومة سوى ما يُسرّب إعلاميًا. وإذا لم تتحرك الحكومة الشرعية، سواء في مجلس الأمن أو عبر أدوات الضغط الدبلوماسي، فإن خطر تجاوزها سيتحول من استثناء إلى قاعدة. من حق الحكومة أن تقدم مذكرات احتجاج رسمية، وأن تطالب بوقف الأعمال العسكرية على أراضيها، وأن توضح بأن التصرفات الفردية لجماعة الحوثي لا تمثل إرادة اليمن، بل هي أعمال عدائية متمردة يجب مساءلتها لا اعتمادها. كما أن من حق الحكومة، بل من واجبها، أن ترفض أي تفاهمات دولية مع الحوثيين لا تمر عبرها، فذلك لا يخرق السيادة فحسب، بل يهدد بإضفاء طابع الأمر الواقع على الانقلاب.

إن المعركة لم تعد فقط عسكرية أو سياسية، بل أصبحت معركة قانونية حول من يمثل اليمن، ومن يتحدث باسمه، ومن يُحدّد مصيره. فالتساهل الدولي في تجاوز الحكومة الشرعية يفتح الباب لمرحلة جديدة من تدويل الصراع على حساب وحدة الدولة اليمنية. وإذا لم تفرض الحكومة اليمنية نفسها كمرجعية قانونية، فإن الفراغ السيادي الذي تتركه ستملؤه الجماعة الانقلابية بأدوات العنف والشعارات، وستُقنّن التفاهمات معها كخيار "واقعي" تتعامل معه العواصم الكبرى، ولو مؤقتًا.

من هنا، لا يكفي أن تكتفي الحكومة الشرعية بالإدانات الشكلية، بل يجب أن تُرفقها بتحرك قانوني نشط، يعيد ترسيخ مبدأ أن اليمن بلد ذو سيادة، وأن لا أحد يملك حق تمثيله إلا سلطاته الشرعية. ذلك هو التحدي الحقيقي في لحظة يتقاطع فيها الداخل المنكوب بالخارج المتربص، وتقف السيادة اليمنية في مهب صفقات قصيرة النظر، قد تُنتج هدوءًا وقتيًا لكنها ستورث شرعية مشوهة، ودولة معلّقة بين الانقلاب والوصاية الدولية.