يوم الغدير بين القداسة والتوظيف السياسي.. قراءة نقدية في ضوء آراء أحمد الكاتب و”مغامرة الإسلام الأولى”

توفيق الحميدي
في الثامن عشر من ذي الحجة، يحتفل ملايين الشيعة حول العالم بذكرى “يوم الغدير”، الذي يُقدَّم في الرواية الشيعية كحدث مفصلي أعلن فيه النبي محمد صلى الله علية وسلم تنصيب الإمام علي خليفة من بعده. وحمل هذا الحدث من التأويل والتفسير ما لا يحتمل ، ووقع الكثير من العلماء بوعي او دون ذلك في تعزيز خطاب التشيع السياسي ، ومع ذلك الباحث العراقي أحمد الكاتب، أن هذا الحديث تجاوز معناه الديني الروحي ليتحوّل إلى أداة سياسية محكمة، استُخدمت لتكريس الطاعة وتدجين المجتمعات عبر قرون.
الكاتب، الذي غادر التشيّع التقليدي إلى فضاء الفكر النقدي، يرى أن الإمامة لم تكن في جوهرها مفهومًا عقائديًا خالصًا، بل ابتكارًا سياسيًا استُخدم لتبرير السلطة الدينية. فالأئمة، كما يُعرضون في العقيدة الإثني عشرية، لم يكونوا مجرد رموز، بل تم توظيفهم لضبط وعي الجماعة وتوجيهها نحو “انتظار” لا ينتهي، حيث اختُرع “المهدي الغائب” حين وُوجه فكر الإمامة بخطر الانقطاع.
ويذهب أحمد الكاتب إلى أن وفاة الإمام الحسن العسكري دون إثبات وجود ابن له، دفعت النخبة الدينية إلى اختراع فكرة الإمام الغائب، الذي “دخل السرداب” ولم يخرج، لتستمر الإمامة عبر الوكالة الدينية، ما سمح ببناء سلطة غير قابلة للنقد أو المراجعة.
ويُضيء مارشال هودجسون في مغامرة الإسلام الأولى على الخلفية التاريخية لهذه الأزمة، مؤكدًا أن كثيرًا من العقائد الشيعية تبلورت في سياق التهميش السياسي، فاتخذت طابعًا باطنيًا مغلقًا، يربط الحقيقة بالإمام المعصوم، ويُقصي ما عداه.
السرداب، بحسب هذا التحليل، ليس مجرد مكان، بل رمز لانفصال العقيدة عن الواقع. لقد تحوّل إلى استعارة حية لوضع المجتمع الشيعي، حيث يُمنع الناس من التفكير في بدائل دنيوية أو مساءلة الحاضر، لأن الخلاص مؤجل في يد الإمام الغائب. وبهذا، أصبح السرداب منظومة انتظار معلّقة، تسمح للفقهاء – بحجة النيابة – بإدارة شؤون الدين والدولة، دون رقابة أو تداول.
في إيران، حوّلت السلطة الغدير إلى عيد رسمي يُستخدم لتأكيد مشروعية “ولاية الفقيه” كامتداد للإمامة، فيما يُوظَّف في العراق ولبنان واليمن لتبرير هيمنة دينية وسياسية بحجة “الحق الإلهي” و”المظلومية التاريخية”. فالحوثيون، مثلاً، يستخدمون الغدير لتأكيد شرعية زعيمهم بوصفه امتدادًا للإمام علي، وتثبيت مبدأ “الولاية”، الذي يُستخدم عمليًا لتبرير التسلط والاحتكار.
تُوظّف الحركات الشيعية السياسية، وفي مقدمتها جماعة الحوثيين في اليمن، يوم الغدير كرافعة رمزية لإعادة إنتاج خطاب “الحق الإلهي في الحكم”، وربط القيادة السياسية المعاصرة بسلسلة الإمامة التاريخية. ففي خطاب الحوثيين، يُصوَّر يوم الغدير على أنه يوم الفصل بين الحق والباطل، حيث يُستدعى الحدث التاريخي لتبرير السلطة القائمة وتحصينها دينيًا، بعيدًا عن مفاهيم المشاركة الشعبية أو الشرعية المدنية.
تتحول المناسبة إلى منصة لتثبيت عقيدة “الولاية” بوصفها تفويضًا إلهيًا لا يُنازع، ما يسمح للجماعة بتأطير خصومها كخارجين عن خط “أولياء الله”، وشرعنة العنف السياسي باسم الدفاع عن المقدّس. لا يُراد من الغدير مجرد تخليد ذكرى، بل إعادة برمجة الوعي الجمعي حول مفهوم القيادة والطاعة، بما يُمكّن الجماعة من بناء مشروعية دينية فوق سياسية، تحقنها بالخوف من الاختلاف، وتغلفها بهالة من العصمة التاريخية.
وهذا الاستغلال لا يقتصر على الحوثيين فقط، بل يتكرر – وإن باختلاف الخطاب – لدى حزب الله في لبنان والحشد الشعبي في العراق، حيث يُربط الغدير بخط “المقاومة والولاية”، وتُقدَّم القيادة بوصفها امتدادًا مباشرًا لخط الإمام علي، وهو ما يُغلق المجال أمام أي مراجعة، ويُحوّل الطقوس الدينية إلى أدوات لتقديس الزعيم السياسي لا محاكمته.
لم يعد يوم الغدير مجرد استعادة لحدث تاريخي أو طقس تعبّدي، بل تحوّل إلى رمزية سياسية تُستخدم لتثبيت الاصطفاف العقائدي وتجديد الشرعية الرمزية للسلطة الدينية. أخطر ما في هذه الرمزية أنها تُبقي الصراع مفتوحًا، وتُغذّي ثنائيات “المظلوم/الغاصب” و”الولي/العدو”، بحيث تمنع المجتمع من التفكير خارج دائرة الطاعة والمظلومية.
ومع الثورة الرقمية، تضاعف خطر هذا التوظيف. فبدل أن تُحرّر وسائل التواصل الوعي الجمعي من الخرافة، أصبحت منصات لتعميقها. تُنتج مقاطع مصورة وخطب مشحونة بالعاطفة تُعيد تدوير الخرافات بلغة حديثة، تستهدف البسطاء وتغلق باب النقد. وهكذا، يتحول الغدير من مناسبة للوحدة إلى آلية محدثة لتكريس الهيمنة وإبقاء الجماهير في دائرة الانتظار والانفعال.
إن خطورة يوم الغدير – حين يتحوّل من ذكرى روحية إلى أداة سياسية مشحونة بالخرافة – لا تقتصر على المجتمعات التي نشأت فيها هذه السرديات، بل باتت تمتد اليوم إلى قلب أوروبا ذاتها، حيث تُعاد هندسة الهويات الدينية على أسس انقسامية طائفية تستورد معها كل توتر الشرق، وتزرع الشك والخوف في بيئات يفترض أنها تجاوزت منطق الصراع على “الحق الإلهي” والولاية المقدسة.
إن السماح لمثل هذه المناسبات – حين تُفرغ من بعدها الإنساني وتُملأ بروح الاصطفاء – بأن تتحول إلى مشهد تعبوي طائفي في دول ديمقراطية، لا يهدد فقط الاندماج، بل يُسهم في إنتاج مجتمعات موازية ترفض المشترك الإنساني وتؤسس لعزلة فكرية ودينية خطيرة.
لا بد من الحذر من هذا التوسع الناعم للخرافة تحت غطاء “الهوية”، لأن ما يبدأ بطقس قد ينتهي بعقيدة تفتي المجتمع وتمزق النسيج المدني باسم الولاء والغيب والانتظار.