خسر اليمن، الجمعة، أحد رموز صحافته وأدبه الحديث، وهو الصحافي والكاتب محمد المساح، ممن أجادوا لعقود كتابة العمود والشعر والسرد القصصي، وكان من رواد العمل الصحافي هناك، ومن أبرز من أجاد كتابة القصة القصيرة وقصيدة النثر.
نعى رحيله عدد كبير من أدباء وكتاب اليمن، الذي أكدوا حجم الفقد الذي خلفه الرحيل الذي اختطف المساح عن عمر ناهز 81 سنة، قضى جُلها في محراب الكتابة قبل أن ينقطع في السنوات الأخيرة التي غادر فيها صنعاء ولجأ إلى قريته في محافظة تعز (جنوب غرب).
“محمد المساح شاب خرج منتصف الستينيات في بعثة طلابية إلى القاهرة. اندمج في الحركة الطلابية المصرية كواحد من أبناء مصر. والمساح ابن حركة القوميين العرب، الفقير إلا من النبل والقيم والأخلاق- يكاد أن يكون يسارياً بالفطرة. وميله إلى اليسار يعبر بعمق عن المنبت الاجتماعي، والأشواق الإنسانية العظيمة”.
يقول نقيب الصحافيين اليمنيين الأسبق، عبدالباري طاهر: “تفتق وعي المساح الطالب بكلية الإعلام على القصيدة الحديثة (قصيدة النثر) بخاصة، وعلى الفكر الحديث بصورة عامة، وامتلك موهبة الإبداع؛ فكان قلماً جباراً”.
وأضاف: “كتب القصة القصيرة، وبرع في رسم حواري صنعاء بأزقتها وفتياتها المشرشفات، والمجللات بالسواد، وقرأ عميقاً حالة الفلاح اليمني، والقرى الجائعة المحاصرة بالتيفوئيد والمظالم والتخلف، وبقي ابن المساح وفياً للمزارع الذي يحرث الأرض والثور والحمار الذي جعل منه لازمة التخاطب، فما إن تلقاه حتى يبادرك: يابن حماري! أما إذا سبقته بالجملة (القنبلة) فقد أمسكت بزمام الأمر”.
محمد المساح نقي نقاء الضمير، ومخلص كالحليب، ووفي كالماء، ورائق كالمحبة. إنسان بسيط بساطة السماء، وصادق كبسمة الأطفال، وقريب إلى الوجدان. يا محمد المساح أين غبت؟ نشتاقك كقهوة الصباح، ودعاء المساء، وشقاوة ابن الأرض. تركت في مصر ذكريات لا تنسى. فكلما ذهبت إلى مصر، والتقيت بالرائعين: بدر الرفاعي، حلمي سالم، وجمال الريان، ومحمد صالح، وسمير عبد الباقي – انفتحت سيرة ذكريات مليئة بالشقاوة، والفتوة، والذكاء، والحب” يقول طاهر.
تجربة قاسية وعميقة
وتابع: “عدتْ بعد التخرج إلى عدن، ثم غادرتها إلى القرية. فلم تكن عدن -حينها- تجسد المثال الذي تطمح إليه. جئت إلى صنعاء، شاركت في إصدار أول عدد لمجلة (الكلمة) التي أصدرها الصديق العزيز الدكتور محمد عبد الجبار، وكانت بصماتك في افتتاحية العدد الأول جلية. تسلمت لفترة قصيرة بعد العزيز الناقد والشاعر الكبير عبد الودود سيف رئاسة تحرير (اليمن الجديد) كما أسهمت في تأسيس ملحق (الثورة الأدبي) ورأست لمرتين متتاليتين تحرير صحيفة (الثورة). تربع عمودك في الصفحة الأخيرة من الثورة بعد عودتك مطلع السبعينيات، وكانت افتتاحية (الثورة) للفقيد الكبير الصحافي والقاص المبدع محمد ردمان الزرقة، إلى جانب نثريتك (لحظة يا زمن)، هما أروع ما تقدمه الصحيفة على مدى أكثر من عقدين من الزمن”.
وقال: “لقد امتلك المساح تجربة قاسية وعميقة في الحياة، واستطاع بموهبة كبيرة نثرها على صدر صفحات الصحف والمجلات، وهو – على غزارة إنتاجه في القصة القصيرة، وقصيدة النثر- لم ينشر شيئاً من إنتاجه، وهو قليل الاهتمام- حد النسيان- لإبداعاته الغزيرة والغنية”.
وطالب طاهر اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين ونقابة الصحافيين اليمنيين بتكريم الراحل من خلال القيام بتجميع إبداعاته من قصة وقصيدة نثر ونشرها.
خبر موجع
فيما كتب الروائي محمود ياسين: “لا أحد سأل عنه سنوات غيابه. لا أظن أي كاتب أو صحافي بحث عن رقم تلفونه واتصل متسائلا ما أن كان يحتاج شيئا أو ما الذي يمكنني فعله لأجلك يا أستاذ محمد؟ لم يعد من شيء يذكرنا ببعضنا غير الموت، وعليك أن تغادر العالم ليلحظ العالم مكانًا فارغا يقال إنك مارست فيه صمتك دون ندم”.
القاص طه العزعزي نعاه بطريقته قائلاً: “موجع خبر رحيل محمد المساح الرجل الأسطوري، الفلاح المكافح، والأوجع من ذلك، أنهم خذلوه، خلوه (تركوه) يرعي الماشية بالقرية وهو صاحب أكبر الأسباب للتذكر عندما يتعلق الأمر بأجمل وأروع أيام الحنين من الندامة إلى الصداقة والنضال والصحافة وذكريات الوجع والحرمان والقهر”.
ويتذكر وكيل وزارة الخارجية الأسبق، الكاتب مصطفى أحمد نعمان، بعضا من ذكرياته مع الراحل بما فيها آخر مكالمة: “تعرفتُ على الراحل جميل الروح بديع القلم محمد المساح في المفرج، حين كان يتردد للقاء صديقه أخي الراحل الشهيد محمد أحمد نعمان. كنت أتابع يافعاً السخرية الجادة بينهما والضحكات التي تصحب تعليقاتهما على ما يحدث. كنت أتهيب الحديث إليه لعلمي أنه أكثر فهما وإدراكا للتاريخ والأدب. ثم أتذكر حضوره حزيناً باكياً للعزاء في اغتيال صديقه محمد في 28 حزيران/ يونيو 1974”.
وأضاف: “انقطعت عنه إلى أن اتصل بي صديقي الأثير سامي غالب ليذكرني بمحمد المساح في الأيام الأخيرة من شهر رمضان. تواصلت مع المساح وتحدثت إليه وابنته التي كانت تقوم على رعايته. كانت آخر مكالمة بيننا قبل أسبوع وكان صوته خافتا لكأنه كان يودعني! رحم الله صاحب (لحظة يا زمن) ولعنات الله على سلطة لا تكترث إلا لمراعاة اللصوص والفاسدين وحملة السلاح وتتجاهل كل صاحب فكر حر غير مداهن، لكنها لن تتأخر عن التعزية فيه، والإشادة بمناقبه واعتماد مرتب شهري لأسرته”.
عن "القدس العربي"