|    English   |    [email protected]

حارس مأرب وليث عرينها.. 4 سنوات على استشهاد العميد عبدالغني شعلان (بروفايل)

الأربعاء 26 فبراير 2025 |منذ 4 ساعات
الذكرى الرابعة لاستشهاد العميد عبدالغني شعلان _ بران برس الذكرى الرابعة لاستشهاد العميد عبدالغني شعلان _ بران برس

أعد المادة لـ"بران برس" - فارس يحيى:

ليلة 26 فبراير/شباط 2021، كان الضابط اليمني الشاب “عبدالغني شعلان”، يقود أخطر المعارك الدفاعية على ضفاف سد مأرب العظيم. وكان اليمنيون يترقّبون- بقلق شديد- نتائج هذه المعركة التي ستحدد مصير اليمن والمنطقة. 

كانت جماعة الحوثي، ومن خلفها النظام الإيراني، قد رمت بكل ثقلها في هذه المعركة، وراهنت عليها لإسقاط المدينة التي استعصت عليها منذ العام 2015، وباتت ترى فيها عقبة أمام مشروعها السلالي العابر للحدود.

دفعت بأخطر عناصرها المسمّاة “كتائب الموت”، للسيطرة على “جبال البلق” الاستراتيجية المطلة على الأطراف الجنوبية الغربية لمدينة مأرب، ضمن عملية هجومية واسعة جرى التخطيط لها وتنفيذها بإشراف ميداني من خبراء الحرس الثوري الإيراني.

خلال الساعات الأولى، أحدثت هذه المجاميع المتطرّفة عقائديًا، والمزوّدة بأحدث الأسلحة والمعدات، اختراقًا خطيرًا في الخطوط الأمامية للجبهة، متخذةً أساليب هجومية إيرانية تتجاهل الخسائر البشرية الهائلة.

حينها سارعت المنظومة الدعائية للمحور الإيراني الممتدّة من صنعاء إلى طهران، مرورًا بالعواصم العربية بغداد وبيروت ودمشق، لإذاعة نبأ سيطرة الحوثيين على مأرب، ذات الأهمية السياسية والاقتصادية والرمزية التاريخية.

لم تكن هذه المعركة كبقيّة المعارك، فإضافة إلى الحشود النوعية المهاجمة، نفّذت الجماعة هجمات عنيفة وكثيفة بأكثر من جبهة مجاورة؛ لمحاولة إرباك الخطوط الدفاعية لقوات الجيش اليمني والمقاومة الشعبية المساندة.

في المقابل، كانت القيادة في مأرب، تُدرك طبيعة الموقف وأهمّيته وأهدافه وتداعياته. ومن واقع هذا التقييم، قرر العميد شعلان، خوض المعركة بنفسه على رأس نخبة من قوات الأمن الخاصة بمأرب، متعديًا وحدات الجيش والمقاومة ورجال القبائل الذين تدافعوا لتعزيز الجبهة.

كانت جماعة الحوثي تعدّها آخر معاركها المحلّية، وفاتحة انتصاراتها الإقليمية. وأرادها “شعلان”، ملحمة تاريخية تسمع بها الأمم، وتنخلع لشدّتها قلوب الفرس وأتباعهم في جزيرة العرب، ويترنم بأمجادها اليمنيون جيلًا بعد جيل.

انقض القائد شعلان، على حشود الأعداء كالإعصار، وإلى جانبه جنوده وضباطه ورجال الجيش والمقاومة الشعبية يصبّون وابل النيران على الأنساق الهجومية الحوثية، ويفتكون بها نسقًا تلو آخر.

كان “شعلان”، يقاتل واقفًا ببسالة المحاربين الأساطير، فقد اعتاد أن يضرب أعداءه بقوّة ساحقة من أقرب مسافة ممكنه، تاركًا لهم الاحتفاظ بصورة أخيره له يتجلّى فيها بكامل قامته وهامته الشامخة.

مع شروق شمس ذلك اليوم، كانت جميع العناصر الحوثية بين قتيل وجريح وأسير في قبضة قوات الجيش والأمن ورجال المقاومة، إلا أنها أضاءت على نبأ استشهاد العميد شعلان، وعدد من رفاقه الذين شهدوا الملحمة، ومنهم العقيد نوفل الحوري، رئيس عمليات القوات الخاصة، لتمتزج مشاعر الفرح بالحزن لدى عموم اليمنيين في الداخل والخارج.

استشهد “شعلان”، بينما كان يقذف الموت في صدور الوحوش البشرية الوالغة في دماء اليمنيين، وبعد أن أشعل روح الحرب، وأطفأ بريق النصر في أعين الكهنة وأبدله بظلام الهزيمة، وفتح أعين الأحرار على مجد الوطن.

من هو شعلان؟

ولد “عبدالغني علي عبدالله شعلان”، بقرية “بيت شعلان”، التابعة لمديرية المحابشة بمحافظة حجة (شمالي غرب اليمن)، عام 1981.

التحق أواخر التسعينيات بكلية الطيران والدفاع الجوي بصنعاء، وتخرّج منها عام 2004، وهو العام الذي أشعلت فيه جماعة الحوثي أولى حروبها المسلّحة ضد الدولة في معقلها بمحافظة صعدة، أقصى شمال البلاد.
عقب تخرّجه، عُيّن ضابط رادار وصواريخ في القاعدة الجوية بكلية الطيران. وتنقّل بعدها في عدّة مناصب منها أركان عمليات الكتيبة 17 بالفرقة الأولى مدرع سابقًا، وأيضًا قائدًا للسرية الأولى في الكتيبة التاسعة، وأمينًا لمخازن الكتيبة.

لاحقًا عُيّن كاتبًا ماليًا للواء 170 دفاع جوي بمحافظة تعز، وفي ألوية أخرى منها اللواء 130 دفاع جوي، وكذلك شغل نفس المنصب في قيادة القوات الجوية بالحديدة عام 2009.

في العام 2011، مع اندلاع ثورة الشباب الشعبية السلمية، كان من أوائل الضباط الذين انحازوا للشعب، وشارك في حماية المعتصمين بصنعاء، مع عدد من قادة وضباط الجيش اليمني بينهم اللواء الركن عبدالرب الشدادي.

عام 2014، عُيّن نائباً لمدير شرطة محافظة الجوف، وحقق إنجازات أمنية كبيرة منها ملاحقة عصابات السرقة والتقطع ومهربي المخدرات التي استوطنت المحافظة وشكلت قلقًا لسكّان البلاد. وقاد عملية لمداهمة أوكار هذه العصابات التي استعصت على الدولة، ليتم تكريمه حينها من قبل رئاسة الجمهورية بترقيته إلى رتبة مقدّم.

الدفاع والتطهير

بداية 2015، كانت جماعة الحوثي قد استكملت السيطرة على صنعاء، ومعظم المحافظات الشمالية، وبدأت التمدد جنوبًا نحو مدينة عدن، والتوجه شرقًا باجتياح محافظة شبوة وتطويق محافظة مأرب الاستراتيجية.

حينها، كان “شعلان”، قد وصل مدينة مأرب، ملتحقًا بالقوات المقاومة للحوثيين بقيادة اللواء الركن عبدالرب الشدادي، والذي استدعى حينذاك الضباط الأكفّاء، وأعاد ترتيب القوّات ودخل بها مراحل قتال دفاعًا عن المحافظة، ومنع سقوط البلاد بيد الجماعة الحوثية ومشروعها العنصري المدعوم إيرانيًا.

كانت أولى المهام التي أسندت لشعلان، حماية الأمن داخل مدينة مأرب، وقد أظهر كفاءة عالية في رصد وتحييد الخلايا التخريبية التي كانت جماعة الحوثي قد جنّدتها تمهيدًا لاجتياح المدينة والسيطرة عليها.

ومع اقتراب المعارك إلى مداخل المدينة في مايو/أيار ٢٠١٥، تولى مسؤولية الحزام الأمني للمدينة. كما شارك في القيادة الميدانية للمعارك بجبهتي الجفينة والفاو جنوب المدينة. 

وبعدها شارك على رأس وحدات أمنية خاصة في معركة التحرير التي توسّعت بقيادة اللواء الشدادي، وصولًا إلى مرتفعات صرواح غرب المحافظة. وحينها، كان شعلان، قد عُيّن أركانًا لقوات الأمن الخاصة فرع مأرب.

وفي كل المهام، أظهر شعلان، شجاعة نادرة وقدرات قيادية عالية، فقد كان يتقدم صفوف المقاتلين، ويقود الجنود بشجاعة وإقدام وثبات منقطع النظير. 

كما عُرف بتواضعه وتقديره الكبير لجنوده، حيث كان يتعامل معهم كرفاق سلاح، ويحرص على توفير احتياجاتهم، فكسب بذلك ثقتهم المطلقة، وجعلهم يبادلونه الوفاء والتقدير.

بناء مؤسسي

في نوفمبر/تشرين الثاني 2016، كُلّف “شعلان”، بمهام قائد فرع قوات الأمن الخاصة بمأرب، قبل أن يُعيَّن لاحقًا قائدًا لها، وهو المنصب الذي ظل فيه حتى استشهاده.

رغم الإمكانيات البسيطة، إلا أنه استطاع، بإخلاصه وحنكته وشخصيته القيادية القوية وكفاءته العسكرية، بناء قوات أمنية ذات كفاءة عالية، قادرة على تنفيذ المهام الأمنية والقتالية المتنوعة في مختلف الظروف. 
وظل يعمل بوتيرة عالية على تطوير هذه القوات وتوسيعها لتشمل قوة الردع، والتدخل السريع، وقوات خاصة، وقوات احتياط للعمليات الطارئة. 

وإضافة إلى برامج التدريب البدني والقتالي المتقدم، حرص “شعلان”، على بناء هذه القوّات وفق أسس وطنية خالصة، ومعايير مهنية رفيعة، وغرس فيهم احترام القانون والتضحية من أجل الوطن والشعب.

وبهذه المؤسسة الأمنية الاحترافية، استطاع شعلان، ترسيخ الأمن بمأرب، المكتظّة بملايين السكّان والنازحين، وجعلها أنموذجًا للدولة، وبيئة جاذبة للاستثمار، وموطنًا آمنًا للفارّين من القمع والباحثين عن فرص العمل.

ومع تواتر نجاحات القوات الخاصة، كانت تتجلى كفاءة القائد شعلان، وقدراته المهنية وخبراته الأمنية والعسكرية ومهاراته القتالية وإرادته الفولاذية في مواجهة التحديات، ومعها تتزايد شهرته وتقدير الناس له في أرجاء البلاد.

استراتيجية التكامل

انتهج العميد شعلان، استراتيجية التكامل بين القطاعات الأمنية والقوات المسلّحة، لمواجهة المخاطر المحيطة بمأرب، والتهديدات التي تستهدف السكّان فيها، متعديًا التخطيط وتبادل المعلومات إلى العمليات المشتركة.

فإلى جانب مهامها الاعتيادية، اضطلعت قوات الأمن الخاصة بمهام قتالية مشتركة في الجبهات المحيطة بمأرب. كما حققت نجاحات كبيرة في مكافحة الإرهاب، ومواجهة تهريب الأسلحة والمخدرات والجريمة المنظّمة.

وفي جميعها، أثبتت حضورًا وكفاءة عالية سواء في العمليات الدفاعية أو عمليات التحرير والتطهير والتأمين، وجسّد شعلان، نموذجًا للجندي المخلص والقائد الفذّ، وكانت كفاءته ونجاحاته محط ثناء القيادة، ومثار إعجاب وافتخار الجنود والمواطنين على السواء.

ملحمة البلق وأحلام طهران

مطلع العام 2020، كثفت جماعة الحوثي هجماتها المسلّحة تجاه مأرب، خصوصًا مع سيطرتها على مرتفعات نهم شرق صنعاء، وتمددها إلى مدينة الحزم عاصمة محافظة الجوف.

هذه الحملة، التي امتدّت لنحو سنتين وشهدت حضورًا ميدانيًا لافتًا لطهران عبر خبرائها وضباطها العسكريين بقيادة حسن إيرلو، شكّلت ضغطًا مضاعفًا على القوات الخاصة بمأرب. فإضافة لمواجهة محاولات زعزعة استقرار المدينة، تطلَّب منها تعزيز بعض الجبهات والبقاء الدائم في بعضها لتعزيز موقف قوات الجيش.

وكانت معركة البلق الشهيرة، أهم الوقائع التي أظهرت صلابة قوات الأمن الخاصة واستبسالها بقيادة شعلان، والذي استشهد فيها بعد أن أذاق العدو هزيمة ساحقة، فكان بطل الملحمة وضابط إيقاعها وقائدها الخالد.

رغم الهزيمة العسكرية المذلّة لإيران، ووكلائها في اليمن والمنطقة، إلا أنها وجدت في استشهاد “شعلان”، عزاءًا لها، وبات حديث آلتها الدعائية لأيام، ووصفته قناة “العالم” الإيرانية الرسمية، بأنه أخطر قيادات الجيش اليمني. 

قبلها، كانت هذه المنظومة تناقش الأهمية الاستراتيجية لمعركة الحوثيين في مأرب، وتشير إلى أن السيطرة عليها سيغيّر وجه الشرق الأوسط 360˚، وهي الأهداف التي تحطّمت تباعًا، قبل أن تُدفَن كليًا في جبال البلق.

مثالًا للتضحية والفداء

طيلة 6 سنوات، ظل “شعلان”، في قلب المعارك، لم يتردد لحظة في اقتحام المخاطر. ومثلما هي بطولاته كثيرة وكبيرة، كان الخطر على حياته، فقد نجا من الموت المحقق عدّة مرات، منها حوادث قصف صاروخي.

لم تختلف ظروف استشهاده كثيرًا، فقد ترجّل وهو يقود المقاتلين بشجاعته المعهودة، محاربًا شديد البأس، قوي الشكيمة، مانحًا الجنود بحضوره ثقة واعتدادًا وشجاعة، ومثّل رحيله تتويجًا لمسيرته المهنية والنضالية المشرّفة.

بعد 4 سنوات على رحيل بطل مأرب، وليث عرينها في تلك الملحمة الشهيرة، ما تزال القوات الخاصة تعمل بذات العنفوان والروح الوطنية التي رسّخها لدى كل جندي وضابط، وما تزال خطاباته المؤثّرة تتردد على ألسنتهم، والتي كانت تشعل حماسهم، وتشحذ روحهم المعنوية، وتزرع فيهم مبادئ الجمهورية وقيم الوفاء للوطن والشعب.

كانت رؤية “شعلان”، الوطنية في بناء هذه المؤسسة بمثابة الوصفة التي ضمنت استمرار أدائها بذات الكفاءة بعد رحيله، فغدا بطلًا وطنيًا متجددًا، ورمزًا قوميًا متوهجًا بحجم الإرث البطولي والتضحيات الخالدة التي قدمّها.

وكما في حياته، يستذكر اليمنيون باستمرار مواقف “شعلان”، وبطولاته الخالدة، ويستعذبون فيها خبرته وبسالته، ويستلهمون منها صفات القائد الفذ والمقاتل الشجاع المخلص لوطنه وشعبة، والمستعد دومًا للتضحية من أجلهما.

غادر “شعلان”، جسدًا لكنه حاضر روحًا ومسيرة وطنية ملهمة تضيء طريق رفاقه الأحرار في معركة استعادة الدولة، وتستقي منها الأجيال قيم الوفاء والإخلاص والتضحية من أجل الوطن ومصالح الشعب العليا.
 

مواضيع ذات صلة