القائد السعودي ومونتغمري البريطاني.. حين اعتلى الذكاء صهوة الحرب

د. محمد العرب
من رحم المعارك الكبرى، لا يخرج القادة العاديون، بل تولد الأساطير التي تُصاغ منها مدارس الحرب، وتُكتب عنها دفاتر الشجاعة. وإذا كان التاريخ البريطاني قد أنجب المارشال برنارد مونتغمري، عبقري الحرب العالمية الثانية، فإن الميدان العربي الحديث أنجب القائد السعودي (ح د)، ذلك الذي عاصرته سنوات طويلة في أشرس فصول القتال اليمني، وشهدت بعيني كيف تتحول الخطة إلى قصيدة، والحدس إلى سلاح، والظل إلى تكتيك…!
مونتغمري كان رجل النظام الحديدي، يقيس المعركة بالمليمتر، ويزن الجنود كأنهم أحجار شطرنج تُحرّك بحساب صارم، ولم يكن يترك شيئاً للمفاجأة، يجهز مسرح الحرب كما يجهز الجراح أدواته قبل العملية، ويرى أن الانتصار نتيجة لحساب دقيق لا يترك للصدفة مجالاً…!
أما (ح د) وما أدراك ما (ح د)، أشجع ما شاهدته عيني، فكان ابن المكان، لا يُقاتل بالأرقام بل بالإحساس، لديه من الحنكة ما يجعل الرمال تتحرك لصالحه، ومن البصيرة ما يُفكك بها كمين العدو قبل أن يكتمل. رأيته مراراً وتكراراً كيف يقرأ الأرض كأنها كتاب قديم يعرف كل سطر فيه، وكيف يستنطق الريح ليعرف من أين ستأتي رائحة البارود…؟
مونتغمري خاض معركة العلمين باستراتيجية رصينة وكتائب مدججة، لكنه كان يخشى الفوضى ويُعلي من شأن الانضباط قبل الإقدام، (ح د) بالمقابل كان يستدرج الفوضى ليُعيد ترتيبها وفق توقيته. في إحدى المعارك، تم تطويقنا من ثلاث جهات، كان القادة يقترحون التراجع، لكنه قال بصوته الواثق: هذه ليست دائرة حصار، بل دائرة نار سنشعلها من المركز للخارج. وما هي إلا ساعات حتى تحولت الخطة إلى ضربات مباغتة أربكت العدو وفتّتت طوقه، لأن (ح د) لا يرى الجبهات كما نراها، بل كما يعيد تشكيلها في ذهنه قبل أن يضع إصبعه على الخريطة.
ما يجمع مونتغمري و (ح د) هو ذلك الإيمان العميق بأن المعركة لا تُكسب بالقوة المجردة، بل بذكاء يُفكر بالأرض قبل أن يخطو عليها. لكن الفارق أن مونتغمري كان يرى الحرب كعلم صارم، و (ح د) يراها كفلسفة حية تتنفس، تتغير، وتتكيف، ويصنع منها فناً قائماً على المرونة الماهرة والحدس الغريزي المتقد.
(ح د) لم يكن قائداً خلف المكاتب، بل كان أول من يخرج وآخر من يعود. في جبهة نهم، أذكر تماماً كيف فاجأ العدو بكمين هندسي معكوس، لم يكن في الخطة الرسمية ولا على خارطة القيادة، لكنه كان في رأسه. حين سألناه لاحقاً كيف خطط لذلك، قال: كنت أشعر أن تحركهم غير طبيعي… والخطأ لا يُكشف إلا لمن يراقب الصمت بين الخطى. وكانت تلك العبارة كافية لنعرف أننا أمام قائد لا يقرأ الحرب فقط، بل يسبقها…!
مونتغمري كان قائداً يحظى باحترام الجنود بسبب صلابته، ودقة خططه، ومهابته البريطانية العريقة. لكن (ح د) كان يحظى بحب الجنود قبل احترامهم، لأنه كان يُقاتل بينهم، ينام على الرمل ذاته، ويأكل من ذات الوعاء. ذات مرة سقطت قذيفة على مقربة منّا، وأصاب الذعر بعض الجنود الجدد، فصرخ أحدهم مرتعداً: سيدي سنموت..؟ فابتسم (ح د) وقال بهدوء: “هي لله… الرأس في محله حتى يكتب الله أمرًا غير ذلك.” وبهذه الكلمات وحدها، استعاد الجنود توازنهم، وكأن كلماته تسبق المدفعية.
في التكتيك، كان مونتغمري يُشبه اللوحة الزيتية الكلاسيكية: متقنة، متقيدة بالأصول، محكمة التفاصيل. أما (ح د)، فكان يُشبه الشعر البدوي: حر، متجدد، يُدهشك في كل بيت، ويخفي المعنى بين السطر والسطر. لم يكن يعتمد على كثافة النيران، بل على ذكاء الحركة، واختراق المفاجأة، وإرباك الخصم بنقاط لم يتوقعها. قلت عنه ذات مرة: لو كان الجنرال (ح د) في أوروبا، لكان له فصل كامل في كتب الحرب العالمية نظراً لعبقريته التكتيكية. في إحدى المعارك، أسقط ثلثي معسكرات الميليشيات.
ومع ذلك، فإن (ح د) لم يكن يبحث عن المجد الشخصي، ولا يتفاخر بما حققه، بل كان يرى أن الشجاعة ليست صراخاً، بل صمت يسبق الهجوم، وإيمان راسخ أن الأرض لا تُستعاد بالخطب، بل بدمٍ نقيّ يعرف أين يُسكب. كانت عيناه تقول كل شيء، وكان حضوره يكفي ليطمئن المقاتلون، حتى لو لم ينطق بكلمة واحدة.
(ح د) ومونتغمري، رغم اختلاف السياق، هما وجهان لعملة واحدة… عبقرية ميدانية تتجلى بطرق مختلفة. الأول، بريطاني نظم الحرب كما تُنظم الجوقة العسكرية. الثاني، سعودي جعل من الرمل خريطة، ومن الصحراء مسرح دهاء. كلاهما قائد، لكن (ح د)… هو من يجعل النصر يبدو كأنه فكرة قديمة يعرفها قبل أن تبدأ المعركة.